الدفتر "ذو الغلاف الأسود" لطلعت باشا والإبادة الأرمنية
ذكرت صحيفة (مرمرة) الصادرة باللغة الأرمنية في اسطنبول في 25 و 26 نيسان-أبريل 2005[1] أن مراد بارداكجة استطاع الحصول على ما زعم أنه الدفتر الخاص بطلعت باشا وزير الداخلية، ثم الصدر الأعظم للدولة العثمانية (أثناء الحرب العالمية الأولى)، وبدأ نشر سلسلة من المقالات في صحيفة (حرييت). وقد أظهرت أرملة طلعت باشا خيرية طلعت وحفيدتها، بوساطة من بارداكجة، الدفتر ذا الغلاف الأسود الذي دوّن فيه طلعت باشا بخط يده أعداد الأرمن المهجرين من ولايات الأناضول، بناء على أوامره. وبحسب دفتر طلعت باشا، بلغ عدد الأرمن المهجرين من الأناضول 924 ألفاً و 158 شخصاً.
وبهذه المناسبة، قال بارداكجة:
"دع الجهلة فينا الذين يقولون: <<نحن لم نقتل الأرمن فحسب، بل قتلنا الأكراد ولنطلب الصفح عن عمليات الإبادة التي ارتكبتاها ونغلق هذه المسألة>>، دع هؤلاء لا يؤثرون في تاريخنا. أما الأوساط الأكاديمية، فلتترك جانباً القول المجرد من أي معنى: <<إننا لم نقتلهم، بل هم الذين قتلونا>>، ودعهم يسلكون المنهج العلمي، وكفى ..".
واعتبرت الأوساط السياسية والدبلوماسية هذه المذكرات أول اعتراف رسمي عثماني-تركي بما عاناه الأرمن بعد ذلك التاريخ. وكان بعض الأكاديميين والكتاب والصحافيين الأتراك دعوا الحكومة إلى الاعتراف بما قام به العثمانيون ضد الأرمن والاعتذار منهم وإغلاق هذا الملف[2].
وإذا صح نسب هذا الدفتر إلى طلعت باشا، فإنه لا يتوقع أن يتضمن اعترافاً من قبله بخط اليد بما اقترفت يداه من جرائم بحق الشعب الأرمني في الدولة العثمانية[3]، ولا يتوقع أنها تتضمن العدد الحقيقي للمهجرين الأرمن والذين أبيدوا. ومع ذلك، فإن مضمون هذا الدفتر أثار جدلاً بين المثقفين الأتراك[4]، وذلك لأنه يناقض ما يدعيه المدافعون عن "وجهة النظر" أو الرواية الرسمية التركية التي تزعم أن عدد المهجرين الأرمن أثناء الإبادة لم يتجاوز 450 ألف شخص، ومن المناطق الحربية فقط، في حين بلغ عدد المهجرين، بحسب هذا الدفتر وكما أسلفت آنفاً، أكثر من ضعف هذا العدد، وبالتحديد 924 ألفاً و 158 شخصاً، فضلاً عن أنهم هجروا من جميع المناطق، بضمنها المدن البعيدة عن المناطق الحربية.
وقد نشرت صحيفة (صباح) التركية في يوم 26 نيسان-أبريل 2005 آراء عدد من المثقفين الأتراك حول هذه المسألة، منهم المحاضر في جامعة سابانجة البروفسور خليل بركتاي الذي قال:
"إن وجهة النظر الرسمية بأن التهجير حدث فقط في المناطق الحربية تم دحضها على أساس ملاحظات طلعت باشا. فإذا كان الرقم الذي ذكره طلعت باشا 924 ألفاً و 158 ً، فأنه يتجاوز المليون إذا أدخل فيه عدد القتلى والمفقودين. وبذلك يدحض دفتر طلعت باشا وجهة النظر الرسمية[5]".
أما البروفسور ميتي تونجاي من جامعة بيلكي في اسطنبول، فقال:
"على الرغم من العلم بوجود هذه الوثيقة طوال هذه السنوات، فأنه لم يتم الكشف عنها. وثمة نقطة أخرى مثيرة للانتباه، هي أنه على الرغم من ذكر أسماء الولايات التي تم تهجير الأرمن منها، لم يذكر أي شيء عن السكان الأرمن في مدن مهمة، مثل اسطنبول وأزمير، في حين نعلم أنه تم اعتقال عدد كبير من المثقفين الأرمن في اسطنبول[6].
وفي موقع الانترنيت (كازيتيم نت)، نشر آليف ايري مقالة قال فيها:
"هل كان محاضرونا وعلماؤنا الذين يستمرون، بحسب ما يقولون أنها معطيات علمية، بالدفاع عن وجهة النظر لأجدادنا القائلة بعدم حدوث أعمال إبادة والذين يملأون اليوم المجلدات بادعاءات كهذه، هل كانوا سيفعلون الشيء ذاته في حال علموا أنهم سيتعرضون يوماً ما إلى الانهيار المفاجئ بخبر وحيد منشور في إحدى الصحف ؟!".
وأضاف: "هل كانوا سيفعلون الشيء ذاته في حال علمهم أن عدد الأرمن الذين أبعدوا من أماكنهم ومنازلهم في عمليات التهجير لعام 1915 لم يكن بحسب ما كتبوا وأقسموا عليه ألف مرة بأنه 500 ألف نسمة، بل كان ضعف هذا العدد ؟! أما الذين كانوا يصرون على أنه <<لم يحدث تطهير عرقي، وأنه لم تجرٍ تصفية الحساب مع الأرمن في الأناضول بسبب انتمائهم القومي فقط، بل تم تهجيرهم بسبب ضربهم لمؤخرة الجيش العثماني، وأن التهجير نفذ فقط في المناطق الحربية>>، هل كان هؤلاء سيأتون بهذا القول في حال علموا أن ادعاءهم هذا سيتم تفنيده بخط اليد لمدبر أعمال التهجير تلك ؟ وماذا كانوا سيقولون في الوقت الذي اعترف فيه صاحب قرار التهجير بأن أعمال التهجير نفذت في كل مكان، حتى في ازميت التي هجًّر منها فقط 55 ألف أرمني ؟".
وتابع القول: "لقد بيّن دفتر طلعت باشا أن عدد الأرمن المهجًّرين من بروسا بلغ 66 ألفاً و 413 شخصاً، وبلغ عددهم 8 آلاف و 290 شخصاً من (بالك اسير)، و 7 آلاف و 377 شخصاً من (افيون). وعندما تم تذكير (ديريا سيزاك) بأن التهجير لم ينفذ في المناطق الحربية فقط، وأنه جرى "تطهير عرقي"[7]، بحسب قول البروفسور خليل بركتاي، فأن الشخص المذكور آنفاً لم يعطٍ أي جواب عن هذا السؤال"[8].
وقد تم انتقاد ما سمي (الدفتر ذو الغلاف الأسود) لطلعت باشا، على الرغم من عدم تضمنه اعترافاً بجميع الجرائم التي ارتكبها هذا السفاح بحق الشعب الأرمني، وكان من غير المتوقع أن يترك طلعت باشا وغيره من زعماء حزب الاتحاد والترقي ما يدينهم بعد خسارتهم في الحرب العالمية الأولى، إلا أن هذا (الدفتر) عد من قبل بعض الكتاب الأتراك وثيقة أصيلة تثبت واقع الإبادة. فقد نشرت صحيفة (مرمرة) الصادرة باللغة الأرمنية في اسطنبول في 30 أيلول-سبتمبر 2005[9] مقالة تحت عنوان: مقالة علي بايرام اوغلو في صحيفة (يني شفق)- بارداكجة وطلعت باشا وعلم التاريخ" جاء فيها:
"أجاب صاحب العمود في في صحيفة (يني شفق) علي بايرام اوغلو أمس (29 أيلول-سبتمبر 2005) في مقالة تحت عنوان: <<بارداكجة وطلعت باشا وعلم التاريخ>> عن المقالة التي نشرها مراد بارداكجة قبل يوم ..".
وبحسب صحيفة (مرمرة)، قال علي بايرام اوغلو: "إن مراد بارداكجة زعم أنه برغم أن الكثيرين من المشاركين في المؤتمر[10] من المختصين بالأرشيف، إلا أنه كان هنالك أيضا أناس لم يدخلوا، ولو لمرة واحدة، مكتباً للأرشيف ..".
وأضاف بايرام اوغلو: "على الرغم من رفض مبدأ الإبادة من قبل أغلبية المتحدثين في المؤتمر، فقد تم نشر ما يؤيد حدوث العكس ..".
وتابع القول: "لقد نشر بارداكجة الوثيقة المسماة <<ملاحظات لطلعت باشا عن أعمال التهجير>>، زاعماً أن منظمي المؤتمر الأرمني، بعكسه، لا يملكون مثل هذه الوثائق ..حسناً، الوثيقة موجودة، ولكن ما مغزاها ؟ ثمة جدول في الوثيقة المنشورة من قبل بارداكجة كتبت تحته ملاحظات. وبحسب الجدول المعد من قبل طلعت باشا، بلغ عدد السكان الأرمن قبل التهجير مليوناً و 112,614 شخصاً. أما بعد التهجير، فبلغ عددهم، بضمنهم الأرمن في حلب ودير الزور والموصل، 284,158 شخصاً، والفرق بين الرقمين هو 828,456 ألف نسمة".
وأردف بايرام اوغلو القول:
"وفي الملاحظات كذلك يقال الآتي: وبما أنه لم يتم تسجيل السكان بشكل كامل، فأن العدد الحقيقي يمكن أن يصل إلى المليون ونصف المليون نسمة. وفي ظل هذه الظروف، فأن الفرق في عدد السكان الأرمن قبل التهجير وبعده يبلغ 924 ألف شخص. وبحسب مزاعم طلعت باشا نفسه، اختفى 75 بالمائة، في المعدل، من عدد السكان الأرمن القاطنين على الأرض العثمانية في غضون تسعة أشهر. وعند الحديث بالأرقام، اختفى، بحسب جداول عديدة، من 750 ألف إلى مليون و 100 ألف أرمني.. ولنعاون بارداكجة قليلاً ونخفف من ذنبه. فبحسب المصادر، فرَّ نحو 100 ألف أرمني إلى روسيا، وهاجر 150 ألفاً إلى الغرب، واعتنق 100 ألف منهم الإسلام.. إذن، يتراوح عدد الأرمن المختفين ما بين 400 و 750 ألف شخص.. وإذا كان بارداكجة قد شارك في المؤتمر الأرمني وقدم هذه الوثيقة، فإنها كانت، بلا شك، ستعتمد كوثيقة أصيلة نثبت أن الإبادة الأرمنية قد وقعت..".
طلعت باشا هو المذنب
وفي مقالة كتبت في صحيفة (زمان) التركية تحت عنوان: "الشخص المذنب هو طلعت باشا"[11] أشار الكاتب إلى كون طلعت باشا مذنباً بارتكاب (أفعال لا شرعية) لتهجير جميع الأرمن، بضمنهم الشيوخ والأطفال، وعدَّ طلعت باشا شخصاً سبّب (المشاكل كلها) للأتراك في حياته، وبعد مماته عندما نُشر دفتره ذو الغلاف الأسود. وبذلك يخالف الكاتب الرواية الرسمية في هذه النقطة، على الرغم من تأييده لها في النقاط الأخرى، بزعم تهجير الأرمن من المناطق الشرقية فقط، وأن التهجير جاء نتيجة لـ (أفعال عصابات الطاشناق[12]) !!
وقال الكاتب:
"إن طلعت باشا هو الشخص الذي ارتكب أفعالاً لا شرعية بنقله بالقوة جميع الأرمن، بضمنهم الكبار والأطفال، بدلاً من معاقبة (عصابات)[13] الطاشناق للقضاء على حالة الفوضى في الشرق ..".
وأضاف:
"لقد سبب طلعت باشا المشاكل كلها لنا، ولم يكن مكتفياً بذلك. والآن، وبعد وفاته بسنوات، تبقى مذكراته التي (تبالغ !)[14] أفعاله وتسبب لنا مزيداً من المشاكل. وفي حين لا يتجاوز عدد الأرمن المنفيين 500 ألف شخص، بحسب أكثر البيانات مبالغة من قبل بعض المؤرخين، تعطي مذكرات طلعت باشا الرقم 924 ألفاً ..".
والجزء الأبرز في المقالة هو الآتي:
"إن النفي الأرمني هو ليس مشكلة العثمانيين أو الأتراك. بل أنه مشكلة طلعت باشا ودائرته المقربة، وهي مشكلة كان من المفترض حلها في ذلك الوقت، ولكنها أصبحت مشكلة الأتراك كلهم وتركيا. إن أتباع طلعت باشا نجحوا في جعل الدولة والأمة كلها مذنبة. وكان على الجمهورية التركية أن تحل هذه المسألة آنذاك باستجواب طلعت باشا[15] ومؤيدي حزب الطاشناق".
ولا يفهم من هم (مؤيدو حزب الطاشناق) لتتم محاسبتهم، وعلى أي شيء يحاسبون، ولكن من المعروف أن طلعت باشا و (دائرته المقربة) كانوا يمثلون الدولة العثمانية التي تعد الجمهورية التركية الوريثة الشرعية لها. ويعترف الكاتب بـ (تقصير) الدولة التركية في هذه المسألة أيضا. لذا، يجب على تركيا اليوم أن تتنصل من أفعال السفاحين والمجرمين وتعترف بالإبادة الأرمنية، لتتخلص من هذا العبء الثقيل الذي "جعل الدولة والأمة (التركية) كلها مذنبة"، والانتقال إلى مصاف الأمم المتحضرة، لا سيما في ظل التطلع التركي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
[1] http://www.normarmara.com/lur.htm
[2] http://www.almustaqbal.com/stories.aspx?StoryID=118514
[3] لم يترك زعماء حزب الاتحاد والترقي وثائق تدينهم، لا سيما قبل فرارهم من الدولة العثمانية إثر هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. راجع في هذا الصدد مقالة راجع مقالة عالم الاجتماع والمؤرخ التركي تانير أكجام في الرابط الآتي:
http://www.ermeni.org/english/cleansingarchives.htm
[4] صحيفة مرمرة (باللغة الأرمنية)، اسطنبول، 27 أبريل-نيسان 2005.
http://www.normarmara.com/lur.htm
[5] قال عمر لاتشينير في ملحق صحيفة (راديكال): إن وجهات النظر الرسمية في جميع أنحاء العالم هي وجهات نظر تم التباحث والتوصل، إلى حد ما، إلى اتفاق بشأنها من قبل عموم الشعب. إلا أن الأمر يختلف في تركيا، إذ أن وجهات النظر هي محض قومية، لأنه يتم فرضها من قبل الأوساط القومية من دون مناقشتها والجدل حولها، وليس من السهولة بمكان الإصرار على خلافها. راجع: صحيفة مرمرة (باللغة الأرمنية)، اسطنبول، 31 أيار-مايس 2005.
http://www.normarmara.com/lur.htm
[6] المصدر السابق.
[7] تم استخدام مصطلح "تطهير عرقي" هنا، بدلاً من الإبادة، وذلك خشية من الملاحقة القضائية للكاتب في تركيا.
[8] صحيفة مرمرة (باللغة الأرمنية)، اسطنبول، 28 أبريل-نيسان 2005.
http://www.normarmara.com/arsiv/2005/04/280405lu.html
[9] http://www.normarmara.com/arsiv/2005/09/300905lu.html
[10] يقصد المؤتمر الذي عقد في اسطنبول في أيلول-سبتمبر 2005 حول قضية الإبادة الأرمنية.
[11] http://www.zaman.com/?bl=columnists&alt=&trh=20050505&hn=19193
[12] هو حزب التحالف الثوري الأرمني.
[13] تم وضع الكلمة بين قوسين من قبلي.
[14] راجع الهامش السابق.
[15] سيتم ذكر أسباب عدم حل هذه المسألة من قبل الجمهورية التركية بحسب كاتب تركي في مقالة مقبلة.
السيد آرا أشجيان ... تحية طيبة وبعد :
ReplyDeleteلقد قرأت مقالك بخصوص مجزرة الارمن, ولقد توقفت عنده قليلا للعلم بالشئ , أقدم لك شديد حزني على هذا الحدث الذي لا أدري ما هي أسبابه الحقيقية حتى الآن , ولقد استوقفني حقا تلك الموسيقى الارمنية التي أضفتها الى مدونتك وياليتك تخبرني باسمها أو كيف أستطيع الوصول اليها.
أشكر اهتمامك
سامي الخطيب
السيد سامي الخطيب المحترم
ReplyDeleteتحية طيبة
أشكر رسالتك واهتمامك.
الإبادة الأرمنية خططت ونفذت لأسباب عديدة يمكنك الاطلاع عليها في المقال الآتي:
http://ara-ashjian.blogspot.com/2006/02/blog-post_113956543909364273.html
الموسيقى الأرمنية المصاحبة لمدونتي هي معزوفة (ارتساخ) للموسيقار الأرمني الشهير آرا كيفوركيان. وارتساخ هي التسمية الأرمنية لإقليم ناغورنو كاراباخ الأرمني.
مع الشكر
آرا أشجيان
يريفان، أرمينيا
لا بد أن أضيف ان المعزوفة موجودة على الرابط:
ReplyDeletehttp://www.youtube.com/watch?v=qX4b4eyEwI8
السيد آرا المحترم
ReplyDeleteمن بعد التحية والاحترام ... أشكر لك الرد وأشكرك على الرابط الموسيقي للسيد آرا كيفوركيان , وأتقدم لك وللأخوة الأرمن الأعزاء بوافر المحبة والتقدير , وأرجو أن تقبل مني أحر التعازي للأهل المنكوبين من جراء هذا الحدث الأليم الذي حدث مثل هذا اليوم, لقد قرأت عدة مقالات بهذا الخصوص ولا أنكر أن قطرات من الدمع سالت على خدّي وأنا أشاهد الصور واقرأ التعليقات المؤلمة .. يضاف الى ذلك تلك الموسيقى الرائعة التي نجحت أنت باختيارها فكانت بحق مناسبة للموضوع
مع تحياتي لك ولمن حولك من الأهل والأقارب
وأرجو أن نبقى على اتصال
سامي الخطيب