مرحباً .. حبيبتي يريفان[1]
بقلم: آرا آشجيان
يريفان، أرمينيا
بعد أن غادرنا أنا وأخي بغداد الحبيبة في 6 أيلول-سبتمبر 2007، وصلنا إلى مدينة دمشق، ومنها إلى حلب بالطريق البري. وكانت أعداد كبيرة من العراقيين تغادر العراق هرباً من الأوضاع الأمنية المتدهورة، وبعد ما أعلنته دمشق من أنها ستطبق على العراقيين نظام الدخول إلى سوريا بتأشيرة السفر التي يتم الحصول عليها مسبقاً ابتداءً من العاشر من أيلول-سبتمبر 2007. وفي حلب مكثنا في بيت خالتي الكبرى، وهي الباقية الوحيدة من بين أخواتها بعد وفاة أمي ومن بعدها بخمسة عشر يوماً خالتي الصغرى في تموز-يوليو الماضي، مكثنا مدة عشرة أيام قبل أن نستقل الطائرة إلى حبيبتي يريفان عاصمة جمهورية أرمينيا التي وصلناها بعد منتصف الليل.
وكانت إقامتي في الشهر الأول في شارع كوميداس، وهو من الشوارع الحيوية في العاصمة، ثم انتقلت إلى العيش في شارع كييف، وقد بدأت البحث عن مسكن للشراء. وتقيم معي الابنة الصغرى لأختي القادمة من الولايات المتحدة الأميركية لتكمل دراستها للطب في جامعة يريفان الرسمية. وكانت دراستها قد انقطعت في كلية الطب بجامعة بغداد، بعد أن تركت أختي وعائلتها بغداد في تموز-يوليو 2006 وهاجروا إلى الولايات المتحدة الأميركية، بسبب تدهور الأوضاع الأمنية في العراق، وبعد حملات التصفية والتهديدات بالقتل والاختطاف الموجهة من قبل الإرهابيين للعلماء والمهندسين والأساتذة الجامعيين والأطباء والجراحين العراقيين، ومنهم زوج أختي.
كان لا بد لي أولاً من وضع أخي العليل في المستشفى ليكون تحت الرعاية الطبية المستمرة، وأستمر في زيارته في المستشفى للاطمئنان عليه وعلى أحواله. ثم بدأت العمل مهندساً مشرفاً في مجال تشييد الطرق والجسور في موقع من مشروع يقع قرب متنزه النصر ومنطقة النصب التذكاري، الذي يرمز إلى الذكرى الخمسين لتأسيس جمهورية أرمينيا السوفييتية (أعلنت أرمينيا جمهورية سوفييتية في 2 كانون الأول-ديسمبر 1920). وتربط شبكة الطرق والجسور في المشروع الذي أعمل فيه شوارع هيراتسي وسارالانج وآفيتيسيان في موضع عال يشرف على العاصمة. ويظهر المنظر الخلاب لقمتي جبل آرارات (يسميه الأرمن أيضا جبل ماسيس)، الذي يرمز تاريخياً إلى أرمينيا والأرمن والأسير لدى تركيا، يظهر جلياً من هذا الموضع، لا سيما في الأيام الصحوة. وتظهر القمتان كأنهما قريبتان جداً منا، على الرغم من أنهما تبعدان نحو 55 كيلومتراً عن يريفان. ويستمر العمل في الموقع، الذي يقع ضمن مشروع ضخم يمتد لكيلومترات طويلة، بجد ونشاط إلى وقت متأخر من اليوم حتى في العطل الرسمية للتعويض عن التوقفات التي تحدث في موسم البرد القارص وتساقط الثلوج والأمطار الغزيرة.
وتمول المشروع الذي أعمل فيه ومشاريع عديدة في أرمينيا وآرتساخ-غاراباغ الجبلية مؤسسة لينسي الأرمنية الأميركية. وهنا أقف إجلالاً واحتراماً لهذه المؤسسة وعملها العظيم الذي يسهم في بناء شبكة من الطرق والجسور الحديثة لتسهيل الربط بين أجزاء العاصمة، كما يسهم في أعمار أرمينيا وآرتساخ-غاراباغ الجبلية، فضلاً عن توفير فرص العمل للآلاف من العاملين والمهندسين. وينتابني شعور بالفرح والزهو كوني أحد المهندسين الذين يسهمون، ولو بجزء بسيط، في أعمار حبيبتي يريفان بعد أن أسهمت في السابق في أعمار حبيبتي بغداد. وأعد هذه من الأحداث التي أفخر بها في حياتي وسجلي المهني. وقبل مغادرتي للعراق، كان صديق لي يقطن الولايات المتحدة قد حصل لي، من دون أن أقوم بتكليفه للقيام بذلك، على فرصة للعمل كمهندس في الولايات المتحدة الأميركية، وقبله وعد صديق آخر يقطن كندا بمساعدتي في إكمال الإجراءات للهجرة إلى كندا، بيد أنني اعتذرت عن قبول هذين العرضين لرغبتي الشديدة في العيش والعمل في حبيبتي يريفان وتحقيق الحلم الذي راودني منذ الطفولة.
ومن جملة الصعوبات التي عانيت منها في العمل في البداية هي اختلاف الطريقة المتبعة في وضع المخططات الهندسية ولغتها التي تعتمد، في بعض الأحيان، اللغة الروسية شائعة الاستخدام في أرمينيا، كونها إحدى الجمهوريات للاتحاد السوفييتي السابق. وينتشر استخدام هذه اللغة، لا سيما في أوساط المهندسين والعاملين من الجيل القديم، وقد بدأت بتعلم بعض الكلمات الروسية المستخدمة في مجال العمل ومجالات الحياة الأخرى وتأقلمت مع العمل وبيئته الجبلية المختلفة، إلى حد كبير، عن أجواء العمل والبيئة في بغداد. ولعلي المهندس الإنشائي العراقي الأرمني الأول، منذ سنوات، الذي يدخل هذا المجال الذي يحتاج أيضاً إلى إتقان اللغة الأرمنية (بلهجته الشرقية المستخدمة في أرمينيا وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق وإيران) لأتمكن من وضع التقارير عن سير العمل وكمياته.
ولا بد لي من القول إن نظام الإشراف الهندسي هنا هو أقل صرامة مما عهدناه في العراق بسبب ما قيل لي إنه استمرار لما كان موجوداً في الحقبة السوفييتية. وأحاول تطبيق نظام في الإشراف يعد أكثر صرامة في المشروع الذي أعمل فيه، ويتعاون معي في هذا المجال المهندسون المشرفون العاملون معي. ويقع بالقرب من الموقع للمشروع الذي أعمل فيه المشروع الضخم لتشييد متحف كافيسجيان للفن الذي تشرف على بنائه مؤسسة كافيسجيان الأرمنية الأميركية، والى جانبه يقع مشروع لبناء متحف ومنزل للمغني الفرنسي الأرمني المشهور عالمياً شارل آزنافور. ثم عينت مهندساً مشرفاً على موقع آخر من المشروع يقع ملاصقاً لجسر مشيد من الحجر يعود تاريخ بنائه إلى العام 1933 في عهد الزعيم الشيوعي الأرمني آغاسي خانجيان الذي راح ضحية لحملات التصفية التي قادها الزعيم السوفييتي ستالين في ثلاثينيات القرن الماضي. ويقع هذا الجسر في شارع الكسندر مياسنيكيان، وهو أول زعيم شيوعي لأرمينيا السوفييتية. وقال مدير الشركة التي أعمل فيها إنني نقلت إلى هذا الموقع المهم في المشروع للجدية التي يتسم بها عملي، وذلك قبل مرور شهر على عملي في المشروع.
وبقوم بانجاز العمل في هذا الموقع مقاول أرمني هاجرت عائلته، وهو طفل بعمر عدة شهور، من مدينة أصفهان الإيرانية إلى أرمينيا في عام 1946، وهو مخلص لعمله إلى حد كبير. وقد قدم هذا المقاول لي عرضاً مثيراً وهو العمل معه في العراق في مجال المشاريع الهندسية وتعويضي البيت الذي بعته في بغداد قبل مغادرتي لها. وسيعني هذا العرض، في حال توفر الظروف المناسبة لتحقيقه، إعادتي، ولو مؤقتاً، إلى مسقط رأسي وحبيبتي بغداد. ويشتبه بعض العاملين والمهندسين في المشروع في أنني من إيران لتشابه لفظتي (العراق) و(إيران) في اللغة الأرمنية (كذلك في اللغة الانكليزية)، ولمنع هذا الاشتباه، أقول إنني من بغداد!! وغالباً ما يسألني العاملون في الموقع عن العراق وأوضاعه ومكونات شعبه، ومنهم الأكراد والايزيديون، الذين يعيش منهم من 55-60 ألف شخص في أرمينيا منهم عدد كبير من تجار اللحوم فيها، وهم يعدون العراق وطناً تاريخياً لهم. كما قضى أحد العاملين في هذا الموقع، وهو مراقب العمل، ثلاث سنوات في العمل في مدينة عدن باليمن في ثمانينيات القرن الماضي، وهو يتذكر بحنين وشوق أيامه تلك، ويذكر لي باستمرار عادات وتقاليد أهل اليمن الطيبين، ويقترب مني كلما استمعت إلى الأغاني العراقية بجهاز هاتفي الخلوي !!
ويريفان مدينة ذات تصميم دائري اعتدت على الوصول إلى شوارعه ومناطقه بالاستعانة بخريطة حاسوبية مفصلة ودليل لسيارات نقل الركاب. وقد تعلمت أسماء الكثير من الشوارع الرئيسية والفرعية في المدينة بشكل أصبح يحسدني عليه بعض الأصدقاء والعاملون معي من سكان المدينة. واعتدت أن أقضي ساعة الاستراحة اليومية من العمل في منطقة تقع قريبة من مقر عملي وتكثر فيها الجامعات والمعاهد الدراسية بالقرب من محطة مترو (الشباب)، وبالجلوس قرب نصب الشاعر الأرمني الكبير آفيديك ايساهاكيان (1875-1957) المطل على شارع الأديب الأرمني الكبير خاجادور آبوفيان (1803-1848). واعتدت على الجلوس في هذا الموقع والتمتع بمشاهدة السيارات والمارة، وأغلبهم من الشباب والشابات الجميلات الأنيقات، متذكراً الأغنية الأرمنية الشهيرة "فتاة يريفان الجميلة" !! وأعلم جيداً أنني سأحسد من قبل الكثيرين من قرائي الذكور، لا سيما الشباب الأرمن في المهجر!! وكيف لا، وأنا نفسي أحسد نفسي يومياً على العيش في حبيبتي يريفان!!
وتشهد المدينة زحاماً في شوارعها بسبب حملة التبليط للطرق وإنشاء الجسور التي يربطها الناس هنا بالانتخابات الرئاسية المزمع إقامتها في شباط-فبراير المقبل. وقد التقيت في يريفان بعض الأصدقاء الذين كنت قد تعرفت إليهم عبر الانترنت وأنا في بغداد، وهم جميعاً ودودون ويقدمون لي المساعدة التي احتاجها لتذليل الصعوبات التي أواجهها في الحياة هنا. ومن بين هؤلاء طالبة ماجستير في قسم العلوم السياسية والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في أرمينيا التي أعدت رسالة عن أوضاع الأرمن العراقيين في العراق وأرمينيا بعد الغزو الأميركي-البريطاني للعراق في عام 2003. وأثارت هذه الرسالة الاهتمام لدى الأرمن العراقيين في أرمينيا والمنظمات الدولية والإنسانية المهتمة بشؤون اللاجئين العاملة في أرمينيا، لأنها تركز، بشكل خاص، على أوضاع الأرمن العراقيين في أرمينيا وتقترح حلولاً عملية للمشاكل التي يعانون منها. وكانت هذه الطالبة قد اتصلت بي عبر الانترنت، بناء على نصيحة بعض الأرمن العراقيين في أرمينيا، لأزودها بالمعلومات التي تحتاجها في هذا الموضوع الصعب الذي يفتقد إلى المصادر المكتوبة. وأشرف على الرسالة الأستاذ المختص في العلوم السياسية الدكتور آرمين آيفازيان[2]. وقد أنجزت هذه الطالبة، بعملها الدؤوب، بحثا متميزاً يعد الأول من نوعه في أرمينيا، وانتقلت من البحث إلى مجال العمل الإنساني لمساعدة الأرمن العراقيين في أرمينيا.
وحضرت اجتماعاً ضم نحو 120 من الأرمن العراقيين المقيمين في أرمينيا لتأسيس اتحاد أو رابطة تمثلهم وتتابع شؤونهم لدى حكومة أرمينيا والمنظمات الجماهيرية والدولية والإنسانية العاملة في أرمينيا. وقد ساد الاجتماع أجواءً عراقية خالصة تبادل فيه الأرمن العراقيون الأفكار والآراء حول تأسيس مثل هذا الاتحاد والهدف منه. وأقر الاجتماع بالإجماع تأسيس هذا الاتحاد الذي يحتاج لاحقاً إلى وضع نظامه الداخلي وأخذ الموافقات الرسمية لتأسيسه وانتخاب هيئته الإدارية.
وأشعر دائماً بالحنين إلى حبيبتي بغداد، وأتابع أخبار العراق بشكل يومي، عبر القنوات الفضائية العراقية والعربية، وكأنني فيها لم أغادرها بعد، وأتألم كثيراً للوضع المأساوي للعراق وللصراعات المذهبية والطائفية المصطنعة التي أوجدها المحتل بين أبناء الشعب الواحد لديمومة احتلاله واستغلتها بعض القوى السياسية العراقية لتحقيق مصالحها الذاتية. واستمع باستمرار إلى أغاني المطرب العراقي هيثم يوسف التي تنقلني إلى أجواء بغداد الحبيبة وتذكرني بحياتي فيها وبأمي، رحمها الله، التي أراها دائماً هنا في وجوه النساء في سنها وأحزن كثيراً. آه يا أمي، كم اشتقت لك وأحتاج إلى وجودك إلى جانبي هنا، حتى وأنت عليلة وأنا أرعاك، لأؤسس حياتي الجديدة في حبيبتي يريفان، واستمد منك القوة والمشورة. لماذا لا تأتيني يا أمي في أحلامي لأتحدث إليك، وأعبر لك عن عظيم حبي وشوقي وأقبل وجنتيك ويديك؟ بيد أنني أشعر بأنفاسك قربي وأنت تراقبين جميع خطواتي وتطمئنين عليَّ. ليتغمدك الرب، يا أمي الحبيبة الغالية، برحمته الواسعة.
[1] تعد هذه المقالة تكملة لمقالتي السابقة تحت عنون: وداعاً.. حبيبتي بغداد.
http://www.azad-hye.org/misc.php?op=details&id=54
[2] للاطلاع على ما كتب عن هذه الرسالة، راجع (باللغة الانكليزية):
http://www.karabakh-open.com/src/index.php?lang=en&nid=6357&id=3
يريفان، أرمينيا
بعد أن غادرنا أنا وأخي بغداد الحبيبة في 6 أيلول-سبتمبر 2007، وصلنا إلى مدينة دمشق، ومنها إلى حلب بالطريق البري. وكانت أعداد كبيرة من العراقيين تغادر العراق هرباً من الأوضاع الأمنية المتدهورة، وبعد ما أعلنته دمشق من أنها ستطبق على العراقيين نظام الدخول إلى سوريا بتأشيرة السفر التي يتم الحصول عليها مسبقاً ابتداءً من العاشر من أيلول-سبتمبر 2007. وفي حلب مكثنا في بيت خالتي الكبرى، وهي الباقية الوحيدة من بين أخواتها بعد وفاة أمي ومن بعدها بخمسة عشر يوماً خالتي الصغرى في تموز-يوليو الماضي، مكثنا مدة عشرة أيام قبل أن نستقل الطائرة إلى حبيبتي يريفان عاصمة جمهورية أرمينيا التي وصلناها بعد منتصف الليل.
وكانت إقامتي في الشهر الأول في شارع كوميداس، وهو من الشوارع الحيوية في العاصمة، ثم انتقلت إلى العيش في شارع كييف، وقد بدأت البحث عن مسكن للشراء. وتقيم معي الابنة الصغرى لأختي القادمة من الولايات المتحدة الأميركية لتكمل دراستها للطب في جامعة يريفان الرسمية. وكانت دراستها قد انقطعت في كلية الطب بجامعة بغداد، بعد أن تركت أختي وعائلتها بغداد في تموز-يوليو 2006 وهاجروا إلى الولايات المتحدة الأميركية، بسبب تدهور الأوضاع الأمنية في العراق، وبعد حملات التصفية والتهديدات بالقتل والاختطاف الموجهة من قبل الإرهابيين للعلماء والمهندسين والأساتذة الجامعيين والأطباء والجراحين العراقيين، ومنهم زوج أختي.
كان لا بد لي أولاً من وضع أخي العليل في المستشفى ليكون تحت الرعاية الطبية المستمرة، وأستمر في زيارته في المستشفى للاطمئنان عليه وعلى أحواله. ثم بدأت العمل مهندساً مشرفاً في مجال تشييد الطرق والجسور في موقع من مشروع يقع قرب متنزه النصر ومنطقة النصب التذكاري، الذي يرمز إلى الذكرى الخمسين لتأسيس جمهورية أرمينيا السوفييتية (أعلنت أرمينيا جمهورية سوفييتية في 2 كانون الأول-ديسمبر 1920). وتربط شبكة الطرق والجسور في المشروع الذي أعمل فيه شوارع هيراتسي وسارالانج وآفيتيسيان في موضع عال يشرف على العاصمة. ويظهر المنظر الخلاب لقمتي جبل آرارات (يسميه الأرمن أيضا جبل ماسيس)، الذي يرمز تاريخياً إلى أرمينيا والأرمن والأسير لدى تركيا، يظهر جلياً من هذا الموضع، لا سيما في الأيام الصحوة. وتظهر القمتان كأنهما قريبتان جداً منا، على الرغم من أنهما تبعدان نحو 55 كيلومتراً عن يريفان. ويستمر العمل في الموقع، الذي يقع ضمن مشروع ضخم يمتد لكيلومترات طويلة، بجد ونشاط إلى وقت متأخر من اليوم حتى في العطل الرسمية للتعويض عن التوقفات التي تحدث في موسم البرد القارص وتساقط الثلوج والأمطار الغزيرة.
وتمول المشروع الذي أعمل فيه ومشاريع عديدة في أرمينيا وآرتساخ-غاراباغ الجبلية مؤسسة لينسي الأرمنية الأميركية. وهنا أقف إجلالاً واحتراماً لهذه المؤسسة وعملها العظيم الذي يسهم في بناء شبكة من الطرق والجسور الحديثة لتسهيل الربط بين أجزاء العاصمة، كما يسهم في أعمار أرمينيا وآرتساخ-غاراباغ الجبلية، فضلاً عن توفير فرص العمل للآلاف من العاملين والمهندسين. وينتابني شعور بالفرح والزهو كوني أحد المهندسين الذين يسهمون، ولو بجزء بسيط، في أعمار حبيبتي يريفان بعد أن أسهمت في السابق في أعمار حبيبتي بغداد. وأعد هذه من الأحداث التي أفخر بها في حياتي وسجلي المهني. وقبل مغادرتي للعراق، كان صديق لي يقطن الولايات المتحدة قد حصل لي، من دون أن أقوم بتكليفه للقيام بذلك، على فرصة للعمل كمهندس في الولايات المتحدة الأميركية، وقبله وعد صديق آخر يقطن كندا بمساعدتي في إكمال الإجراءات للهجرة إلى كندا، بيد أنني اعتذرت عن قبول هذين العرضين لرغبتي الشديدة في العيش والعمل في حبيبتي يريفان وتحقيق الحلم الذي راودني منذ الطفولة.
ومن جملة الصعوبات التي عانيت منها في العمل في البداية هي اختلاف الطريقة المتبعة في وضع المخططات الهندسية ولغتها التي تعتمد، في بعض الأحيان، اللغة الروسية شائعة الاستخدام في أرمينيا، كونها إحدى الجمهوريات للاتحاد السوفييتي السابق. وينتشر استخدام هذه اللغة، لا سيما في أوساط المهندسين والعاملين من الجيل القديم، وقد بدأت بتعلم بعض الكلمات الروسية المستخدمة في مجال العمل ومجالات الحياة الأخرى وتأقلمت مع العمل وبيئته الجبلية المختلفة، إلى حد كبير، عن أجواء العمل والبيئة في بغداد. ولعلي المهندس الإنشائي العراقي الأرمني الأول، منذ سنوات، الذي يدخل هذا المجال الذي يحتاج أيضاً إلى إتقان اللغة الأرمنية (بلهجته الشرقية المستخدمة في أرمينيا وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق وإيران) لأتمكن من وضع التقارير عن سير العمل وكمياته.
ولا بد لي من القول إن نظام الإشراف الهندسي هنا هو أقل صرامة مما عهدناه في العراق بسبب ما قيل لي إنه استمرار لما كان موجوداً في الحقبة السوفييتية. وأحاول تطبيق نظام في الإشراف يعد أكثر صرامة في المشروع الذي أعمل فيه، ويتعاون معي في هذا المجال المهندسون المشرفون العاملون معي. ويقع بالقرب من الموقع للمشروع الذي أعمل فيه المشروع الضخم لتشييد متحف كافيسجيان للفن الذي تشرف على بنائه مؤسسة كافيسجيان الأرمنية الأميركية، والى جانبه يقع مشروع لبناء متحف ومنزل للمغني الفرنسي الأرمني المشهور عالمياً شارل آزنافور. ثم عينت مهندساً مشرفاً على موقع آخر من المشروع يقع ملاصقاً لجسر مشيد من الحجر يعود تاريخ بنائه إلى العام 1933 في عهد الزعيم الشيوعي الأرمني آغاسي خانجيان الذي راح ضحية لحملات التصفية التي قادها الزعيم السوفييتي ستالين في ثلاثينيات القرن الماضي. ويقع هذا الجسر في شارع الكسندر مياسنيكيان، وهو أول زعيم شيوعي لأرمينيا السوفييتية. وقال مدير الشركة التي أعمل فيها إنني نقلت إلى هذا الموقع المهم في المشروع للجدية التي يتسم بها عملي، وذلك قبل مرور شهر على عملي في المشروع.
وبقوم بانجاز العمل في هذا الموقع مقاول أرمني هاجرت عائلته، وهو طفل بعمر عدة شهور، من مدينة أصفهان الإيرانية إلى أرمينيا في عام 1946، وهو مخلص لعمله إلى حد كبير. وقد قدم هذا المقاول لي عرضاً مثيراً وهو العمل معه في العراق في مجال المشاريع الهندسية وتعويضي البيت الذي بعته في بغداد قبل مغادرتي لها. وسيعني هذا العرض، في حال توفر الظروف المناسبة لتحقيقه، إعادتي، ولو مؤقتاً، إلى مسقط رأسي وحبيبتي بغداد. ويشتبه بعض العاملين والمهندسين في المشروع في أنني من إيران لتشابه لفظتي (العراق) و(إيران) في اللغة الأرمنية (كذلك في اللغة الانكليزية)، ولمنع هذا الاشتباه، أقول إنني من بغداد!! وغالباً ما يسألني العاملون في الموقع عن العراق وأوضاعه ومكونات شعبه، ومنهم الأكراد والايزيديون، الذين يعيش منهم من 55-60 ألف شخص في أرمينيا منهم عدد كبير من تجار اللحوم فيها، وهم يعدون العراق وطناً تاريخياً لهم. كما قضى أحد العاملين في هذا الموقع، وهو مراقب العمل، ثلاث سنوات في العمل في مدينة عدن باليمن في ثمانينيات القرن الماضي، وهو يتذكر بحنين وشوق أيامه تلك، ويذكر لي باستمرار عادات وتقاليد أهل اليمن الطيبين، ويقترب مني كلما استمعت إلى الأغاني العراقية بجهاز هاتفي الخلوي !!
ويريفان مدينة ذات تصميم دائري اعتدت على الوصول إلى شوارعه ومناطقه بالاستعانة بخريطة حاسوبية مفصلة ودليل لسيارات نقل الركاب. وقد تعلمت أسماء الكثير من الشوارع الرئيسية والفرعية في المدينة بشكل أصبح يحسدني عليه بعض الأصدقاء والعاملون معي من سكان المدينة. واعتدت أن أقضي ساعة الاستراحة اليومية من العمل في منطقة تقع قريبة من مقر عملي وتكثر فيها الجامعات والمعاهد الدراسية بالقرب من محطة مترو (الشباب)، وبالجلوس قرب نصب الشاعر الأرمني الكبير آفيديك ايساهاكيان (1875-1957) المطل على شارع الأديب الأرمني الكبير خاجادور آبوفيان (1803-1848). واعتدت على الجلوس في هذا الموقع والتمتع بمشاهدة السيارات والمارة، وأغلبهم من الشباب والشابات الجميلات الأنيقات، متذكراً الأغنية الأرمنية الشهيرة "فتاة يريفان الجميلة" !! وأعلم جيداً أنني سأحسد من قبل الكثيرين من قرائي الذكور، لا سيما الشباب الأرمن في المهجر!! وكيف لا، وأنا نفسي أحسد نفسي يومياً على العيش في حبيبتي يريفان!!
وتشهد المدينة زحاماً في شوارعها بسبب حملة التبليط للطرق وإنشاء الجسور التي يربطها الناس هنا بالانتخابات الرئاسية المزمع إقامتها في شباط-فبراير المقبل. وقد التقيت في يريفان بعض الأصدقاء الذين كنت قد تعرفت إليهم عبر الانترنت وأنا في بغداد، وهم جميعاً ودودون ويقدمون لي المساعدة التي احتاجها لتذليل الصعوبات التي أواجهها في الحياة هنا. ومن بين هؤلاء طالبة ماجستير في قسم العلوم السياسية والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في أرمينيا التي أعدت رسالة عن أوضاع الأرمن العراقيين في العراق وأرمينيا بعد الغزو الأميركي-البريطاني للعراق في عام 2003. وأثارت هذه الرسالة الاهتمام لدى الأرمن العراقيين في أرمينيا والمنظمات الدولية والإنسانية المهتمة بشؤون اللاجئين العاملة في أرمينيا، لأنها تركز، بشكل خاص، على أوضاع الأرمن العراقيين في أرمينيا وتقترح حلولاً عملية للمشاكل التي يعانون منها. وكانت هذه الطالبة قد اتصلت بي عبر الانترنت، بناء على نصيحة بعض الأرمن العراقيين في أرمينيا، لأزودها بالمعلومات التي تحتاجها في هذا الموضوع الصعب الذي يفتقد إلى المصادر المكتوبة. وأشرف على الرسالة الأستاذ المختص في العلوم السياسية الدكتور آرمين آيفازيان[2]. وقد أنجزت هذه الطالبة، بعملها الدؤوب، بحثا متميزاً يعد الأول من نوعه في أرمينيا، وانتقلت من البحث إلى مجال العمل الإنساني لمساعدة الأرمن العراقيين في أرمينيا.
وحضرت اجتماعاً ضم نحو 120 من الأرمن العراقيين المقيمين في أرمينيا لتأسيس اتحاد أو رابطة تمثلهم وتتابع شؤونهم لدى حكومة أرمينيا والمنظمات الجماهيرية والدولية والإنسانية العاملة في أرمينيا. وقد ساد الاجتماع أجواءً عراقية خالصة تبادل فيه الأرمن العراقيون الأفكار والآراء حول تأسيس مثل هذا الاتحاد والهدف منه. وأقر الاجتماع بالإجماع تأسيس هذا الاتحاد الذي يحتاج لاحقاً إلى وضع نظامه الداخلي وأخذ الموافقات الرسمية لتأسيسه وانتخاب هيئته الإدارية.
وأشعر دائماً بالحنين إلى حبيبتي بغداد، وأتابع أخبار العراق بشكل يومي، عبر القنوات الفضائية العراقية والعربية، وكأنني فيها لم أغادرها بعد، وأتألم كثيراً للوضع المأساوي للعراق وللصراعات المذهبية والطائفية المصطنعة التي أوجدها المحتل بين أبناء الشعب الواحد لديمومة احتلاله واستغلتها بعض القوى السياسية العراقية لتحقيق مصالحها الذاتية. واستمع باستمرار إلى أغاني المطرب العراقي هيثم يوسف التي تنقلني إلى أجواء بغداد الحبيبة وتذكرني بحياتي فيها وبأمي، رحمها الله، التي أراها دائماً هنا في وجوه النساء في سنها وأحزن كثيراً. آه يا أمي، كم اشتقت لك وأحتاج إلى وجودك إلى جانبي هنا، حتى وأنت عليلة وأنا أرعاك، لأؤسس حياتي الجديدة في حبيبتي يريفان، واستمد منك القوة والمشورة. لماذا لا تأتيني يا أمي في أحلامي لأتحدث إليك، وأعبر لك عن عظيم حبي وشوقي وأقبل وجنتيك ويديك؟ بيد أنني أشعر بأنفاسك قربي وأنت تراقبين جميع خطواتي وتطمئنين عليَّ. ليتغمدك الرب، يا أمي الحبيبة الغالية، برحمته الواسعة.
[1] تعد هذه المقالة تكملة لمقالتي السابقة تحت عنون: وداعاً.. حبيبتي بغداد.
http://www.azad-hye.org/misc.php?op=details&id=54
[2] للاطلاع على ما كتب عن هذه الرسالة، راجع (باللغة الانكليزية):
http://www.karabakh-open.com/src/index.php?lang=en&nid=6357&id=3
0 comments:
Post a Comment