أحوال السلطنة العثمانية في القرن السابع عشر بحسب شاهد العيان سبستياني [1]
وصف شاهد العيان سبستياني أحوال السلطنة العثمانية والمنطقة التي زارها في القرن السابع عشر كالآتي:
"كانت الاضطرابات المتفشية في الإمبراطورية العثمانية المنهارة حديث القاصي والداني، فالجميع يتوقعون خرابها القريب، وقد تناقلت الألسنة خبراً مفاده أن مياه النهر عندما انحسرت، ظهرت قطعة من الرخام كتب عليها بحروف قديمة أن سقوط الإمبراطورية العثمانية قريب !"[2].
وتابع سبستياني القول:
"كان يسكن في المملكة (يقصد العثمانية، آ.س.) دروز وعرب وتركمان وأكراد وبوذيون، وبالرغم من أن هؤلاء الأقوام يدينون بالإسلام .. لكنهم يرفضون الخضوع للسلطة العثمانية، ولذا نراهم يشنون الهجمات الواحدة تلو الأخرى على السلطة في مختلف الولايات ولا تقتصر غاراتهم على القوافل والمسافرين، بل على المدن المحصنة نفسها، كما حدث أكثر من مرة بالنسبة الى البيرة وارفا وقوجحصار ونصيبين ومدن أخرى عديدة، أضف الى ذلك الاتاوات التي يأخذونها من المسافرين فهم بعملهم هذا يعتبرون أنفسهم خارج الإمبراطورية إذ لا يعترفون بسلطتها وقد أقفرت المدن من جراء تلك الهجمات، كما أن هؤلاء يرفضون الانخراط في الجيش العثماني، وكانوا يؤدون بعض الضرائب للحكومة فيما سبق، ولكنهم امتنعوا عن تأديتها نظراً لثقلها عليهم ... إن التجار أنفسهم أخذوا يهربون الى الجبال أو الى إيران ... لنفس السبب، أعني كثرة الضرائب"[3].
ثم قال:
"هناك عامل آخر أدى الى ابتعاد السكان عن المدن، إضافة الى ثقل الضرائب، إلا وهو الحروب المتتالية ... فالحروب تدمر وليس هناك من يعمر ... والمدن الخربة لا تعد ولا تحصى، وآثار الخراب بادية للعيان على طول الطريق بين بغداد والموصل، لا بل حتى في أورفا وحلب واسطنبول وأزمير ... ليس بالإمكان رؤية أكثر من خمس عشرة مدينة كبيرة وعلى جانب من الأهمية في تلك الإمبراطورية، أما الأماكن الأخرى فليست سوى قرى وبليدات لا غير، والقسم الأكبر من هذه المدن يميل الى الخراب وقد تركه أهله، أضف الى كل ذلك الصحراء العربية الشاسعة، وبادية ما بين النهرين وكلدية، والولايات الأخرى، بحيث يسير المسافر أسابيع كاملة دون أن يمر بمكان مأهول يستحق الذكر.
إن المدن العامرة والمأهولة بالسكان تقع في القسم الأفريقي أو الأوروبي من الإمبراطورية. واعتراف الولايات الأفريقية بالسلطة التركية اسمي فقط ... فهذه مصر حاقدة على السلطان وترفض الخضوع له. ولهذا السبب تضطر الحكومة الى تجميد قسم كبير من القوات في مصر، وهذا يؤدي الى إنفاق أموال طائلة.
أما اسطنبول والأماكن القريبة منها فيسكنها شعب غفير وسبب ذلك واضح، لأنها مركز الثقل وفيها البلاط. وقد يتهيب الأوروبيون من الإمبراطورية العثمانية لأن مصدر الأخبار التي تردهم هي على الغالب من اسطنبول، وهناك تظهر الإمبراطورية بمظهر أعظم بكثير مما هي في الحقيقة.
بإمكاني أن أؤكد بكل حق، إنّي في المرات الأربع التي طفت بها أرجاء الإمبراطورية، رأيتها تسير من سيء الى أسوأ، ورأيت المدن تقفر من سكانها ... فالموصل على سبيل المثال، كانت مكتظة بالسكان في زيارتي الأولى، بينما رأيتها مؤخراً مقفرة وقد غادرها أكثرية سكانها والحوانيت مغلقة، لأن أصحاب الصنائع والمهن والتجار كانوا قد هربوا الى جبال الأكراد ... إذ لم يبق لهم ما يقدمونه للضريبة العثمانية الجشعة.
ولقد أضعفت الإمبراطورية وأنهكت قواها حروبها الطويلة مع البندقية ... لقد بدأ الأتراك يشعرون بسوء أحوالهم، وقلة الأرزاق، منذ أن بدأت هذه الحرب.
أما عن الطاعون فحدث ولا حرج، فقد كان منتشراً في أرجاء الإمبراطورية، وما أن تتخلص منه ولاية حتى تبتلي به ولاية أخرى، لقد أضعف الطاعون قواها وشل حركتها.
ومن أسباب إضعاف الإمبراطورية وإنهاكها، الحروب الأهلية والثورات التي كانت تنشب هنا وهناك. وعلى سبيل المثال الحرب التي شنها حسن باشا والي حلب، لقد هزت هذه الثورة آسيا الصغرى كلها وبلاد ما بين النهرين ومختلف الولايات ..."[4].
ويتطرق سبستياني الى حادثة القبض على السفير الفرنسي في اسطنبول وابنه بتهمة التجسس بالقول:
"عندما ألقي القبض على السفير في اسطنبول بتهمة التجسس لحساب أهل البندقية[5]، قيل آنذاك أن مفتي العاصمة الأكبر اقترح في ديوان القضاء أن يقتل جميع الإفرنج القاطنين في الإمبراطورية لأنهم جواسيس. لكن أعضاء دار الإفتاء كانوا أكثر تعقلاً ودراية، فعارضوا الاقتراح، بالرغم من اقتناعهم بصحة التهمة الملصقة بالإفرنج، لكنهم لا يريدون جلب نقمة عظيمة على الإمبراطورية قد تكون الحرب إحدى نتائجها"[6].
[1] هو المونسنيور سبستياني الذي انتدبته الرئاسة الكنسية في روما للذهاب في مهمة رسمية الى الهند بصفة مفتش رسولي لدراسة أحوال النصارى في منطقة الملبار. راجع: الأب د. بطرس حداد (ترجمها عن الايطالية وعلّق عليها)، رحلات سبستياني الى العراق في القرن السابع عشر، ، بغداد، 2004، ص 7.
[2] المصدر السابق، ص 87.
[3] المصدر السابق، ص 124.
[4] المصدر السابق، ص ص 124-126.
[5] يشير المؤلف الى السفير الفرنسي دي لاهاي (M. de La Haye) وابنه اللذين أوقفا وضربا بسبب كتاب سري كان قائد الأسطول البندقي قد أرسله الى السفير بواسطة شخص اسمه فيرمون ليسلمه الى السكرتير البندقي (Ballerino) فوقعت الرسالة في يد الصدر الأعظم وكانت عاقبتها وخيمة على السفير وابنه. راجع: المصدر السابق، ص 88 (حاشية).
[6] المصدر السابق، ص 88.
0 comments:
Post a Comment