ترتكز "وجهة النظر" أو الرواية الرسمية التركية في إنكار الإبادة الأرمنية على جملة مرتكزات، لعل أبرزها هو اتهام الأرمن بعدم الإخلاص والتمرد ضد الدولة العثمانية، وهي تسويغات تصدعت حتى في أوساط الأتراك أنفسهم، وسأشير في مقالات مقبلة الى بعض المقالات التي نشرها كتاب وصحفيون أتراك في الصحف التركية والتي تخالف "وجهة النظر" هذه.
إن الحالات الأربع لانتفاضة الأرمن إبان الإبادة الأرمنية لم تكن حالات منعزلة ومنفصلة عن بعضها البعض فحسب، بل كانت حالات مرتجلة وأعمال تعبر عن اليأس لمقاومة أعمال التهجير والإفناء. وبما أنها كانت إجراءات دفاعية محضة، فإن جميع المقاتلين الذين شاركوا فيها استشهدوا خلال العمليات التي خاضتها ضدهم وحدات الجيش التركي لقمع انتفاضتهم. وبالمصادفة المحضة فقط، بقي المنتفضون في مدينة فان (أو وان) على قيد الحياة عندما تم تحريرهم بالوصول المتصادف للوحدات المتقدمة للجيش الروسي في منطقة القوقاز والتي انتصرت على القوات التركية واستولت على المدينة. وكانت موارد المنتفضين محدودة وذاتية، بضمنها الأسلحة والعتاد التي كانوا يملكونها. إن تأخير الجيش الروسي لمدة يومين أو ثلاثة كان سينهي حتماً حياة المدافعين اليائسين. وقد شهد بذلك الفريق في الجيش بوميانكوفسكي عندما وصف انتفاضة (فان) بـ (العمل اليائس)، وذلك لأن الأرمن "أدركوا أن أعمال القتل العامة بدأت في ضواحي مدينة (فان) وأنهم سيكونون الضحايا المقبلين لها". كما شهد على هذه الحقيقة السفير الألماني في الدولة العثمانية مترنيخ وضابط عسكري فنزويلي من أصل اسباني كان مسؤولاً عن بطارية المدفعية التي كانت تقصف بشكل مستمر مواقع الدفاعات الأرمنية وتدمرها[1].
في شباط-فبراير 1915، أعلن والي (فان) جودت باشا "لقد سوّينا الحساب مع الأرمن والآشوريين في أذربيجان (يقصد الإيرانية)، وبجب التعامل مع أرمن وان بالطريقة ذاتها"، وقد جاءته إمدادات عسكرية من أرضروم لهذا الغرض. وبدأت قوات الجيش والشرطة التركية في منتصف نيسان-أبريل بتنظيم المذابح في المناطق الأرمنية في ولاية (فان)، وتم ذبح 24 ألف أرمني في الناحية الشمالية لبحيرة (فان) في غضون ثلاثة أيام فقط. وبدأ المئات من القرويين الأرمن بخوض معارك ضارية ضد القوات المهاجمة وانسحبوا نحو مدينة (فان) لينظموا مع سكانها المعارك الدفاعية، وبدأ التصدي لهجوم القوات النظامية والذي بدأ في العشرين من نيسان-أبريل 1915، معتمدين أمام العدو المتفوق في الرجال والسلاح على إمكانياتهم الذاتية فقط. وقد أطلقت القوات الحكومية على المدينة نحو 16 ألف قذيفة مدفع من دون أن تمس هذه القذائف عزيمة وصلابة المدافعين عنها. وقد استمرت المعارك الدفاعية الضارية في (فان) 27 يوماً. وبعد أن سمع الأتراك بقرب قدوم الجيش الروسي إلى المدينة، أطلقوا قذائفهم الأخيرة على المدينة وانسحبوا منها، ودخل الجيش الروسي المدينة في 19 أيار-مايس[2].
لقد كانت مذبحة (فان) مريعة، تلك التي ارتكبها الأتراك عام 1915 ضد المدينة التي رفعت السلاح بعد أن حاصرتها القوات الحكومية بقصد تهجير وإبادة سكانها. فقد تحدث أحد الصحفيين في أوائل أيلول-سبتمبر من العام 1915 عنها، وكيف أن القطع العسكرية الروسية التي جاءت لاحتلال المدينة لم تستطع دخولها بسبب من الرائحة العفنة التي كانت تفوح من جثث الشهداء الأرمن. كما نشر هذا الصحفي نص البرقية التي بعث بها قائد تلك القطع حيث كتب فيها يقول: "لقد دمرت مدينة وان بأكملها. أحرقت مبانيها الجيدة، أما منازلها المبنية من الطين فقد هدمت. الشوارع وأفنية المنازل مليئة بجثث الأرمن والمواشي، والأمتعة نهبت وأخذت"[3].
تهمة خيانة الأرمن
في بداية تشرين الثاني-نوفمبر 1918، وبعد سقوط حكومة الاتحاد والترقي، كشف رئيس وزراء تركيا الجديد الداماد فريد باشا النقاب عن (الزوايا المظلمة لمخطط الإبادة الذي وضعه ونفذه حزب الاتحاد والترقي ضد الأرمن)، وقال : "إن ما أعلنته حكومة الأتراك الفتيان في (الكتاب الأحمر) الذي أصدرته عن عدم إخلاص الأرمن للدولة العثمانية (خلال تلك الفترة، آ . س) هو شيء مضلل و يتنافى تماماً مع الحقيقة"[4].
وتتم الإشارة الـ "التحالف السياسي الكبير بين الأرمن العثمانيين والقوات الروسية". ويتبادر الى الذهن السؤال الآتي: أي تحالف هذا، ومن قبل أية جهة أو مجموعة من الأرمن العثمانيين ؟ وتحاول أجهزة الدعاية التركية وعملاؤها التذرع بهكذا مسوغات لا تتضمن أي معنى أو مضمون، بل هي على العكس، تكسب دولاً وأفراداً إلى جانب القضية الأرمنية والاعتراف الدولي بإبادة الأرمن.
وللحقيقة التاريخية نذكر أن زعماء الحزب السياسي الأرمني الرئيس (حزب التحالف الثوري الأرمني-الطاشناق) أعلنوا في بداية آب-أغسطس 1914 ولاءهم للدولة العثمانية، وتعهدوا، كمواطنين مخلصين للدولة، على القتال دفاعاً عن الدولة، إذا قررت الحكومة دخول الحرب، برغم كل النصائح التي قدمها إليها الحزب لثنيها عن قرارها هذا. كما أن الزعيم الروحي للأرمن في الدولة العثمانية، وهو البطريرك الأرمني في اسطنبول، قد أمر جميع المؤمنين الأرمن في اسطنبول والولايات، عبر منشور عام، بإطاعة المسؤولين الحكوميين والقيام بواجباتهم بإخلاص تجاه الدولة. ولا أحد يستطيع أن ينكر حقيقة أن زعماء الحزب السياسي الأرمني المذكور آنفاً بذلوا كل ما في وسعهم لإيقاف حركة التطوع الأرمنية التي بدأت تكسب زخماً في منطقة ما وراء القوقاز الروسية، ولكنهم فشلوا في مسعاهم. وتبقى حقيقة أن معظم هؤلاء المتطوعين الراغبين في القتال ضد الأتراك في صفوف الجيش الروسي كانوا أما من مواطني روسيا أو أوروبا وأميركا الشمالية.
وفي هذا الصدد قالت العكيلي في رسالتها للماجستير[5]:
".. قامت (الدولة العثمانية، آ.س.) في بداية الحرب العالمية الأولى بمحاولة تجنيد الأرمن، الذين تتراوح أعمارهم بين العشرين والخامسة والأربعين، في صفوف القوات العثمانية، كما حاولت استخدامهم ضد الروس في القفقاس. ولهذا الغرض توجه مندوبون عن جمعية تركيا الفتاة الى أرضروم للاجتماع باللجان الثورية الأرمنية التي كانت قد عقدت في 2 آب 1914 م مؤتمراً برئاسة حزب الطاشناق. وتدارس المندوبون مع الأرمن هناك متطلبات الحرب والجبهة الداخلية ومحاولة القوى الخارجية التأثير فيها، وضرورة تأدية الأرمن لواجباتهم بوصفهم رعايا عثمانيين. فتعهد الأرمن بالولاء للحكومة العثمانية، وتأدية الخدمة العسكرية وعدم السماح لأنفسهم بأن يتأثروا بالقوى الأجنبية.أعطى الأرمن ذلك التعهد على الرغم من أنهم لم يكونوا مقتنعين بدخول الدولة العثمانية الحرب الى جانب ألمانيا، فقد حاولوا أن يبينوا للمندوبين العثمانيين بأن من مصلحة العثمانيين أن يبقوا على الحياد ولا يخوضوا غمار الحرب التي لن تعود عليهم إلا بالضرر الجسيم. وحين حاول بهاء الدين شاكر وناجي بيك- وهما من جمعية تركيا الفتاة- إقناع الأرمن بالقيام بحركات تمرد في القفقاس وتشكيل فرق فدائية أرمنية هناك، بمساعدة أرمن القفقاس لقتال الروس، وقطعوا لهم العهود بإنشاء دولة أرمنية مستقلة مقابل هذه المساعدة[6]، رفض الأرمن ذلك الطلب بدعوى أنهم لا يمكن أن يتدخلوا في شؤون أرمن القفقاس لأنهم مواطنون تابعون الى روسيا، فلم يعجب هذا التصريح المندوبين الاتحاديين الذين غادروا المدينة مهددين <<أن عدم اشتراك الأرمن في الثورة في القفقاس يمكن أن يسبب لهم عواقب وخيمة"[7].
وقال شاهد عيان هو إسحاق أرملة عن إخلاص الأرمن للدولة العثمانية ما نصه:
"وكتب الأرمن في جرائدهم ومجلاتهم يحرضون بعضهم بعضاً ليقاتلوا الروس ويكشفوهم عن بلادهم. وعلقوا ورقة على باب المحكمة كتبتها جمعية الاتحاد والترقي منطوقها حث الأتراك وحضهم على محاربة الروس وفيها أن السلطان ذاته مستعد للنزول الى ميدان القتال إن دعت الحال"[8].
على أية حال، كيف يمكن لوجود بعض الرعايا العثمانيين، من بين هؤلاء المتطوعين أن يسوغ اللجوء إلى الاتهام الشامل لـ "الأرمن العثمانيين" ؟ ولماذا يتم تجاهل حقيقة وجود الألوف من الآذريين والأكراد الذين كانوا يقاتلون الأتراك بالطريقة ذاتها في صفوف الجيش الروسي ؟ ويمكن قول الشيء ذاته بالنسبة للألوف من اليهود من روسيا وأوروبا الذين خدموا عام 1915 في صفوف القوة البريطانية في الدردنيل، وخدموا في عام 1918 ضمن قوات الجنرال اللنبي على الجبهة الفلسطينية. لذا يمكن التكهن بوجود اعتبارات إستراتيجية ثابتة، أكثر من مشاركة الجنود الأرمن في الجيش الروسي في الحرب ضد الدولة العثمانية، في اختيار الأرمن واستهدافهم.
وتشير حقائق الإبادة الأرمنية إلى أن استهداف الأرمن لم يقتصر على المناطق الشرقية، وهي مسرح العمليات العسكرية ضد الجيش الروسي، بل شملت السكان الأرمن القاطنين في جميع أركان الإمبراطورية العثمانية مترامية الأطراف. ويعترف ضابط تركي رفيع المستوى في الاستخبارات في أثناء الحرب في مذكراته بعد الحرب بأنه "ومن بين هؤلاء الأرمن الذين جرى تبديدهم على نحو سيء جداً، برغم أنهم كانوا الأكثر براءة وبلا ذنب والذين لم يرتكبوا مطلقاً أي جرم، كان الأرمن في بورسا، وأنقرة، وأسكي شهر وقونية. وهذه كانت ضمن المناطق والولايات البعيدة جداً عن المناطق الحربية[9].
[1] http://www.zoryaninstitute.org
[2] تاريخ الشعب الأرمني، مسؤولا التحرير: د.ب. آغايان و آ.ك. هوفهانيسيان، المجلد السادس، أرمينيا خلال الفترة من 1870-1917، أكاديمية علوم أرمينيا السوفييتية، يريفان، 1981، ص ص 565-567 (باللغة الأرمنية).
[3] د. كمال مظهر أحمد، كردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى، ترجمة محمد الملا عبد الكريم، الطبعة الثانية، بغداد، 1984، ص ص 254-255.
[4] مقتبس من: ج. كيراكوسيان، الأتراك الفتيان أمام قضاء التاريخ (منذ عام 1915 وحتى يومنا هذا)، الجزء الثاني، دار نشر هاياستان، يريفان، أرمينيا، 1983، ص ص 160-161 (باللغة الأرمنية).
وقد أثنى زعماء حزب الاتحاد والترقي، وفي مناسبات عديدة، على إخلاص الأرمن للدولة العثمانية (كان الأتراك أنفسهم يطلقون على الشعب الأرمني في الدولة العثمانية، ولقرون طويلة، تسمية "الملة الصادقة" أو الشعب الصادق) . وفي رسالة بعث بها أنور باشا وزير الحربية إلى أحد الزعماء الروحيين الأرمن، أثنى فيها على شجاعة وبسالة الجنود الأرمن في الجيش العثماني أثناء معركة ساريغاميش عام 1914 ضد الجيش الروسي، حتى أن أحد ضباط الصف الأرمن هو الذي أنقذ أنور باشا من الوقوع في الأسر .
[5] نجلاء عدنان حسين العكيلي، الدولة العثمانية والمشكلة الأرمنية 1894-1916، رسالة ماجستير في التاريخ الحديث مقدمة الى مجلس كلية التربية في الجامعة المستنصرية بإشراف الأستاذ الدكتور لطفي جعفر فرج، بغداد، 2003.
[6] لم تعطَ الوعود بتأسيس دولة أرمنية، بل بمنح حكم ذاتي للأرمن في الولايات الأرمنية.
[7] المصدر السابق، ص ص 89-90.
[8] اسحاق ارملة (شاهد عيان)، القصارى في نكبات النصارى (يتضمن ما جرى في بلاد ما بين النهرين ولا سيما ماردين من الظلم والتعدي والخطف والنفي والذبح والسبي وسائر الفظائع والاهانات سنة 1895 وسنة 1914-1919)، حلب، د.ت.، ص ص 110-111.
[9] http://www.zoryaninstitute.org
إن الحالات الأربع لانتفاضة الأرمن إبان الإبادة الأرمنية لم تكن حالات منعزلة ومنفصلة عن بعضها البعض فحسب، بل كانت حالات مرتجلة وأعمال تعبر عن اليأس لمقاومة أعمال التهجير والإفناء. وبما أنها كانت إجراءات دفاعية محضة، فإن جميع المقاتلين الذين شاركوا فيها استشهدوا خلال العمليات التي خاضتها ضدهم وحدات الجيش التركي لقمع انتفاضتهم. وبالمصادفة المحضة فقط، بقي المنتفضون في مدينة فان (أو وان) على قيد الحياة عندما تم تحريرهم بالوصول المتصادف للوحدات المتقدمة للجيش الروسي في منطقة القوقاز والتي انتصرت على القوات التركية واستولت على المدينة. وكانت موارد المنتفضين محدودة وذاتية، بضمنها الأسلحة والعتاد التي كانوا يملكونها. إن تأخير الجيش الروسي لمدة يومين أو ثلاثة كان سينهي حتماً حياة المدافعين اليائسين. وقد شهد بذلك الفريق في الجيش بوميانكوفسكي عندما وصف انتفاضة (فان) بـ (العمل اليائس)، وذلك لأن الأرمن "أدركوا أن أعمال القتل العامة بدأت في ضواحي مدينة (فان) وأنهم سيكونون الضحايا المقبلين لها". كما شهد على هذه الحقيقة السفير الألماني في الدولة العثمانية مترنيخ وضابط عسكري فنزويلي من أصل اسباني كان مسؤولاً عن بطارية المدفعية التي كانت تقصف بشكل مستمر مواقع الدفاعات الأرمنية وتدمرها[1].
في شباط-فبراير 1915، أعلن والي (فان) جودت باشا "لقد سوّينا الحساب مع الأرمن والآشوريين في أذربيجان (يقصد الإيرانية)، وبجب التعامل مع أرمن وان بالطريقة ذاتها"، وقد جاءته إمدادات عسكرية من أرضروم لهذا الغرض. وبدأت قوات الجيش والشرطة التركية في منتصف نيسان-أبريل بتنظيم المذابح في المناطق الأرمنية في ولاية (فان)، وتم ذبح 24 ألف أرمني في الناحية الشمالية لبحيرة (فان) في غضون ثلاثة أيام فقط. وبدأ المئات من القرويين الأرمن بخوض معارك ضارية ضد القوات المهاجمة وانسحبوا نحو مدينة (فان) لينظموا مع سكانها المعارك الدفاعية، وبدأ التصدي لهجوم القوات النظامية والذي بدأ في العشرين من نيسان-أبريل 1915، معتمدين أمام العدو المتفوق في الرجال والسلاح على إمكانياتهم الذاتية فقط. وقد أطلقت القوات الحكومية على المدينة نحو 16 ألف قذيفة مدفع من دون أن تمس هذه القذائف عزيمة وصلابة المدافعين عنها. وقد استمرت المعارك الدفاعية الضارية في (فان) 27 يوماً. وبعد أن سمع الأتراك بقرب قدوم الجيش الروسي إلى المدينة، أطلقوا قذائفهم الأخيرة على المدينة وانسحبوا منها، ودخل الجيش الروسي المدينة في 19 أيار-مايس[2].
لقد كانت مذبحة (فان) مريعة، تلك التي ارتكبها الأتراك عام 1915 ضد المدينة التي رفعت السلاح بعد أن حاصرتها القوات الحكومية بقصد تهجير وإبادة سكانها. فقد تحدث أحد الصحفيين في أوائل أيلول-سبتمبر من العام 1915 عنها، وكيف أن القطع العسكرية الروسية التي جاءت لاحتلال المدينة لم تستطع دخولها بسبب من الرائحة العفنة التي كانت تفوح من جثث الشهداء الأرمن. كما نشر هذا الصحفي نص البرقية التي بعث بها قائد تلك القطع حيث كتب فيها يقول: "لقد دمرت مدينة وان بأكملها. أحرقت مبانيها الجيدة، أما منازلها المبنية من الطين فقد هدمت. الشوارع وأفنية المنازل مليئة بجثث الأرمن والمواشي، والأمتعة نهبت وأخذت"[3].
تهمة خيانة الأرمن
في بداية تشرين الثاني-نوفمبر 1918، وبعد سقوط حكومة الاتحاد والترقي، كشف رئيس وزراء تركيا الجديد الداماد فريد باشا النقاب عن (الزوايا المظلمة لمخطط الإبادة الذي وضعه ونفذه حزب الاتحاد والترقي ضد الأرمن)، وقال : "إن ما أعلنته حكومة الأتراك الفتيان في (الكتاب الأحمر) الذي أصدرته عن عدم إخلاص الأرمن للدولة العثمانية (خلال تلك الفترة، آ . س) هو شيء مضلل و يتنافى تماماً مع الحقيقة"[4].
وتتم الإشارة الـ "التحالف السياسي الكبير بين الأرمن العثمانيين والقوات الروسية". ويتبادر الى الذهن السؤال الآتي: أي تحالف هذا، ومن قبل أية جهة أو مجموعة من الأرمن العثمانيين ؟ وتحاول أجهزة الدعاية التركية وعملاؤها التذرع بهكذا مسوغات لا تتضمن أي معنى أو مضمون، بل هي على العكس، تكسب دولاً وأفراداً إلى جانب القضية الأرمنية والاعتراف الدولي بإبادة الأرمن.
وللحقيقة التاريخية نذكر أن زعماء الحزب السياسي الأرمني الرئيس (حزب التحالف الثوري الأرمني-الطاشناق) أعلنوا في بداية آب-أغسطس 1914 ولاءهم للدولة العثمانية، وتعهدوا، كمواطنين مخلصين للدولة، على القتال دفاعاً عن الدولة، إذا قررت الحكومة دخول الحرب، برغم كل النصائح التي قدمها إليها الحزب لثنيها عن قرارها هذا. كما أن الزعيم الروحي للأرمن في الدولة العثمانية، وهو البطريرك الأرمني في اسطنبول، قد أمر جميع المؤمنين الأرمن في اسطنبول والولايات، عبر منشور عام، بإطاعة المسؤولين الحكوميين والقيام بواجباتهم بإخلاص تجاه الدولة. ولا أحد يستطيع أن ينكر حقيقة أن زعماء الحزب السياسي الأرمني المذكور آنفاً بذلوا كل ما في وسعهم لإيقاف حركة التطوع الأرمنية التي بدأت تكسب زخماً في منطقة ما وراء القوقاز الروسية، ولكنهم فشلوا في مسعاهم. وتبقى حقيقة أن معظم هؤلاء المتطوعين الراغبين في القتال ضد الأتراك في صفوف الجيش الروسي كانوا أما من مواطني روسيا أو أوروبا وأميركا الشمالية.
وفي هذا الصدد قالت العكيلي في رسالتها للماجستير[5]:
".. قامت (الدولة العثمانية، آ.س.) في بداية الحرب العالمية الأولى بمحاولة تجنيد الأرمن، الذين تتراوح أعمارهم بين العشرين والخامسة والأربعين، في صفوف القوات العثمانية، كما حاولت استخدامهم ضد الروس في القفقاس. ولهذا الغرض توجه مندوبون عن جمعية تركيا الفتاة الى أرضروم للاجتماع باللجان الثورية الأرمنية التي كانت قد عقدت في 2 آب 1914 م مؤتمراً برئاسة حزب الطاشناق. وتدارس المندوبون مع الأرمن هناك متطلبات الحرب والجبهة الداخلية ومحاولة القوى الخارجية التأثير فيها، وضرورة تأدية الأرمن لواجباتهم بوصفهم رعايا عثمانيين. فتعهد الأرمن بالولاء للحكومة العثمانية، وتأدية الخدمة العسكرية وعدم السماح لأنفسهم بأن يتأثروا بالقوى الأجنبية.أعطى الأرمن ذلك التعهد على الرغم من أنهم لم يكونوا مقتنعين بدخول الدولة العثمانية الحرب الى جانب ألمانيا، فقد حاولوا أن يبينوا للمندوبين العثمانيين بأن من مصلحة العثمانيين أن يبقوا على الحياد ولا يخوضوا غمار الحرب التي لن تعود عليهم إلا بالضرر الجسيم. وحين حاول بهاء الدين شاكر وناجي بيك- وهما من جمعية تركيا الفتاة- إقناع الأرمن بالقيام بحركات تمرد في القفقاس وتشكيل فرق فدائية أرمنية هناك، بمساعدة أرمن القفقاس لقتال الروس، وقطعوا لهم العهود بإنشاء دولة أرمنية مستقلة مقابل هذه المساعدة[6]، رفض الأرمن ذلك الطلب بدعوى أنهم لا يمكن أن يتدخلوا في شؤون أرمن القفقاس لأنهم مواطنون تابعون الى روسيا، فلم يعجب هذا التصريح المندوبين الاتحاديين الذين غادروا المدينة مهددين <<أن عدم اشتراك الأرمن في الثورة في القفقاس يمكن أن يسبب لهم عواقب وخيمة"[7].
وقال شاهد عيان هو إسحاق أرملة عن إخلاص الأرمن للدولة العثمانية ما نصه:
"وكتب الأرمن في جرائدهم ومجلاتهم يحرضون بعضهم بعضاً ليقاتلوا الروس ويكشفوهم عن بلادهم. وعلقوا ورقة على باب المحكمة كتبتها جمعية الاتحاد والترقي منطوقها حث الأتراك وحضهم على محاربة الروس وفيها أن السلطان ذاته مستعد للنزول الى ميدان القتال إن دعت الحال"[8].
على أية حال، كيف يمكن لوجود بعض الرعايا العثمانيين، من بين هؤلاء المتطوعين أن يسوغ اللجوء إلى الاتهام الشامل لـ "الأرمن العثمانيين" ؟ ولماذا يتم تجاهل حقيقة وجود الألوف من الآذريين والأكراد الذين كانوا يقاتلون الأتراك بالطريقة ذاتها في صفوف الجيش الروسي ؟ ويمكن قول الشيء ذاته بالنسبة للألوف من اليهود من روسيا وأوروبا الذين خدموا عام 1915 في صفوف القوة البريطانية في الدردنيل، وخدموا في عام 1918 ضمن قوات الجنرال اللنبي على الجبهة الفلسطينية. لذا يمكن التكهن بوجود اعتبارات إستراتيجية ثابتة، أكثر من مشاركة الجنود الأرمن في الجيش الروسي في الحرب ضد الدولة العثمانية، في اختيار الأرمن واستهدافهم.
وتشير حقائق الإبادة الأرمنية إلى أن استهداف الأرمن لم يقتصر على المناطق الشرقية، وهي مسرح العمليات العسكرية ضد الجيش الروسي، بل شملت السكان الأرمن القاطنين في جميع أركان الإمبراطورية العثمانية مترامية الأطراف. ويعترف ضابط تركي رفيع المستوى في الاستخبارات في أثناء الحرب في مذكراته بعد الحرب بأنه "ومن بين هؤلاء الأرمن الذين جرى تبديدهم على نحو سيء جداً، برغم أنهم كانوا الأكثر براءة وبلا ذنب والذين لم يرتكبوا مطلقاً أي جرم، كان الأرمن في بورسا، وأنقرة، وأسكي شهر وقونية. وهذه كانت ضمن المناطق والولايات البعيدة جداً عن المناطق الحربية[9].
[1] http://www.zoryaninstitute.org
[2] تاريخ الشعب الأرمني، مسؤولا التحرير: د.ب. آغايان و آ.ك. هوفهانيسيان، المجلد السادس، أرمينيا خلال الفترة من 1870-1917، أكاديمية علوم أرمينيا السوفييتية، يريفان، 1981، ص ص 565-567 (باللغة الأرمنية).
[3] د. كمال مظهر أحمد، كردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى، ترجمة محمد الملا عبد الكريم، الطبعة الثانية، بغداد، 1984، ص ص 254-255.
[4] مقتبس من: ج. كيراكوسيان، الأتراك الفتيان أمام قضاء التاريخ (منذ عام 1915 وحتى يومنا هذا)، الجزء الثاني، دار نشر هاياستان، يريفان، أرمينيا، 1983، ص ص 160-161 (باللغة الأرمنية).
وقد أثنى زعماء حزب الاتحاد والترقي، وفي مناسبات عديدة، على إخلاص الأرمن للدولة العثمانية (كان الأتراك أنفسهم يطلقون على الشعب الأرمني في الدولة العثمانية، ولقرون طويلة، تسمية "الملة الصادقة" أو الشعب الصادق) . وفي رسالة بعث بها أنور باشا وزير الحربية إلى أحد الزعماء الروحيين الأرمن، أثنى فيها على شجاعة وبسالة الجنود الأرمن في الجيش العثماني أثناء معركة ساريغاميش عام 1914 ضد الجيش الروسي، حتى أن أحد ضباط الصف الأرمن هو الذي أنقذ أنور باشا من الوقوع في الأسر .
[5] نجلاء عدنان حسين العكيلي، الدولة العثمانية والمشكلة الأرمنية 1894-1916، رسالة ماجستير في التاريخ الحديث مقدمة الى مجلس كلية التربية في الجامعة المستنصرية بإشراف الأستاذ الدكتور لطفي جعفر فرج، بغداد، 2003.
[6] لم تعطَ الوعود بتأسيس دولة أرمنية، بل بمنح حكم ذاتي للأرمن في الولايات الأرمنية.
[7] المصدر السابق، ص ص 89-90.
[8] اسحاق ارملة (شاهد عيان)، القصارى في نكبات النصارى (يتضمن ما جرى في بلاد ما بين النهرين ولا سيما ماردين من الظلم والتعدي والخطف والنفي والذبح والسبي وسائر الفظائع والاهانات سنة 1895 وسنة 1914-1919)، حلب، د.ت.، ص ص 110-111.
[9] http://www.zoryaninstitute.org
0 comments:
Post a Comment