Tuesday, April 04, 2006

اردوغانيات


كل يوم، يطالعنا رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان بتصريحات ومواقف أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها لا تعبر عن نضج إنساني وسياسي.
فاردوغان قال خلال زيارة رسمية إلى النرويج: "إنه من مسؤولية الأرمن الاعتذار لمزاعم الإبادة خلال الحرب العالمية الأولى"[1].
ويبدو أن رئيس وزراء تركيا ورئيس حزب العدالة والتنمية الذي يزعم أنه إسلامي يفتقد إلى أي حس من العدالة الإسلامية والإنسانية. فهو يطلب من الضحية الاعتذار للجلاد الذي قتل مليون ونصف المليون من شعب الضحية المخلصين للدولة والذين أطلق الجلاد نفسه عليهم لقرون تسمية "الملة الصادقة" أو الشعب الصادق!! كما هجّر هذا الجلاد مئات الألوف من شعب الضحية واستولى على ممتلكاتهم ودمر ارثهم الثقافي والحضاري الذي يمتد لخمسة ألاف سنة خلت. ويمارس أحفاد هذا الجلاد الآن سياسة الإنكار للإبادة لعام 1915 ويسوغونها، ملقين اللوم فيها على الضحية نفسه!! وهم، بذلك، يقومون بما أصطلح عليه من قبل الباحثين المخنصين بالإبادة بـ (القتل المضاعف).
ولم يكتف اردوغان بطلب الاعتذار من الأرمن، بل طلب الاعتذار أيضا من جميع الدول التي اعترفت بالإبادة الأرمنية. وقال اردوغان: "إنهم سيوجهون رسالة إلى (11) دولة استخدمت الكتاب الأزرق (البريطاني)، وهي دراسة استخدمت كأساس للمزاعم الأرمنية، للاعتذار من تركيا". وأضاف: "إن النواب الأتراك الـ 550 سيوقعون هذه الرسالة"[2].
إلا أن رئيس البرلمان التركي بولنت ارينك وجه رسائل إلى رؤساء البرلمان في (16) دولة من الدول الني كانت آنذاك معترفة بالإبادة الأرمني [3]، وام تتضمن هذه الرسائل الطلب بالاعتذار من هذه الدول لاعترافها بالابادة الأرمنية حسب ما ورد في الصحافة التركية[4].
وخلال زيارته للولايات المتحدة، دعا اردوغان الأميركيين الى "عدم التصديق بمزاعم الأرمن عن حدوث الابادة الأرمنية"، وقال: "اذا دعت الحاجة، فإننا مستعدون لمواجهة تاريخنا. إن جبيننا ناصع، ولنا الثقة في تاريخنا. ولا يمكن لاجدادنا أن يفعلوا مثل ذلك الشيء (يقصد الابادة، آ.س.)"[5].
يا لها من طريقة فاعلة لمخاطبة الأميركيين!! لقد ظن السيد اردوغان نفسه في أنقرة يوحه خطاباً لحشد من الأتراك القوميين و "يقنعهم" بعدم حدوث الأبادة الأرمنية!! ولكن ماهو "دليل" السيد أردوغان على "عدم حدوث الأبادة"؟ "الدليل" هو ان أجداده هم المتهمون و "لا يمكن لأجداده ان يفعلوا مثل ذلك الشيء" ويمكن لأي قوم آخر على وجه الأرض أرتكاب الجرائم والمنكرات ما عدا أجداده!!
وفي التجمع الذي نظمته مؤسسات الفكر الأميركية قال أردوغان: إن تركيا تتوقع من الأميركيين من الأصول الأرمنية القيام بـ "دور بناء أكبر". وبحسب أردوغان، "اتخذت تركيا خطوات مهمة من أجل (التنوير) بشأن تلك المزاعم التي تسبب الضرر حالياً للعلاقات التركية–الأرمنبة"، وأضاف: "إنه من غير الصحيح انتهاج سياسة تقوم على تفسير التاريخ بالطريقة التي يرغب فيها المرء ونقل مشاعر الكراهية للأجيال المقبلة". وتابع القول: "إننا لا نحمل اية مشاعر كراهية الا أن اتخاذ القرارات السياسية من قبل عدد من الدول التي لا صلة لها بهذه المسألة لا تقدم حلاً لهذه القضية"[6]. وقال أيضا: "وفي ماعدا ذلك، فأن المجلس الأوروبي أعلن أن أرمينيا تحتل غاراباغ (أقليم آرتساخ-ناغورني غاراباغ الجبلي، آ.س.)، لذا فعلى ارمينيا أولاً الأنسحاب من غاراباغ, غير أن أرمينيا، وبدلاً من ذلك، تحاول أن تظهر نفسها انها على حق عن طريق استخدام نشاطات مجموعات اللوبي (الضغط) المتعددة". وأضاف: "إلا أن أمراً كهذا يعد غير مقبول، فإن الدولة الوحيدة التي لا تمتلك الشجاعة للاستفادة من علاقات الجوار هي أرمينيا، وأن هذه السياسة قصيرة النظر وغير العقلانية تصيب بالضرر شعبها".
ثم تطرق اردوغان الى المسألة القيرصية، وأعلن "احتجاجه على الحصار المفروض على جمهورية قبرص التركية"، وتساءل: "لماذا تتم معاقبة الشعب التركي في قبرص؟"[7].
لقد عرض السيد اردوغان أمام ممثلي مؤسسات الفكر الأميركية ما يمكن أن نسميه مجموعة من الترهات السياسية التي لا يمكن إلا أن تجلب الضرر لتركيا. فاردوغان يدعو الأميركيين من الأصول الأرمنية الى القيام بـ "دور بناء أكبر"، وهو بذلك يطالبهم بالتخلي عن جهودهم من أجل الحصول على اعتراف الكونغرس الأميركي ورئيس الولايات المتحدة الأميركية بالإبادة الأرمنية وإعتراف تركيا باول جريمة إبادة في القرن العشرين.
إن اردوغان الذي يبدي حرصاً على العلاقات الأرمنية-التركية يجد نضال الأرمن من أجل الاعتراف بالإبادة الأرمنية وجعل المجرم يعترف بالجريمة التي ارتكبها بحق شعب باكمله واستعادة حقوقهم المسلوبة، يجد أنه "نقل لمشاعر الكراهية للأجيال المقبلة".
ثم يشكو اردوغان من قضية هي من أكثر القضايا التي تزعجها، وهي اعتراف دول العالم بالإبادة الأرمنية، ويعتبرها "قرارات سياسية" تتخذها "عدد من الدول التي لا صلة لها بهذه المسألة".
إن السد اردوغان لا يفهم المسؤولية الإنسانية والأخلاقية والقانونية للاعتراف بجريمة مرتكبة بحق الإنسانية وادانتها ومحاكمة مرتكبيها لمنع تكرار مثل هذه الجرائم، التي ابتلت بها الإنسانية جمعاء، في المستقبل. وهي خطوة متحضرة تتخذها دول للتصالح مع الماضي والاعتراف بالجرائم المرتكبة بحق مواطنيها أنفسهم، كما هي الحال مع المانيا.
ولخلط الأوراق وتحويل الإنتباه عن الاهتمام الدولي بقضية الإبادة الأرمنية يقفز اردوغان الى قضية أخرى لا علاقة لها بالإبادة الأرمنية، وهي قضية أقليم آرتساخ-ناغورني غاراباغ الجبلي الأرمني[8] الذي خاض شعبه نضالاً تحررياً وطنياً للتخلص من الاحتلال الأذربيجاني البغيض الذي سيطر على الأقليم بتدبير من القوات البريطانية عام 1918 وبقرار من جوزيف ستالين عام 1923، وهو لم يشكل يوماً ما جزءاً من أذربيجان التي وضعت على الخريطة لأول مرة عام 1918 حسب المصادر التاريخية الموثوقة[9].
ثم يتهم اردوغان أرمينيا بـ "استخدام نشاطات مجموعات اللوبي (الضغط) المتعددة" من أجل الاعتراف بالإبادة الأرمنية، وهي حالة لم تكن موجودة في اعتراف دول أوروبية، مثل ألمانيا وبولندا، بالإبادة الأرمنية.
ثم يتهم اردوغان أرمينيا بأنها " الدولة الوحيدة التي لا تمتلك الشجاعة للاستفادة من علاقات الجوار"، ويبدي حرصاً على شعبها. فمن المعروف أن تركيا هي التي رفضت دعوات أرمينيا المستمرة لاقامة علاقات دبلوماسية وطبيعية بين الدولتين وفتح الحدود التي أغلقتها تركيا من جانب واحد. وقد رفضت تركيا هذه الدعوات، واضعة شروطاً لتلبيتها، منها تخلي الأرمن عن جهودهم للاعتراف بالإبادة الأرمنية و"انسحابهم" من أقليم آرتساخ-غاراباغ، وهي بذلك تربط علاقاتها بأرمينيا بدولة ثالثة هي اذربيجان. إن السياسة التركية هذه قد أصابت بالضرر شعبها نفسه، إذ يشكو المسؤولون الأتراك في المحافظات الشرقية لتركيا المحاذية للحدود مع أرمينيا من أن إغلاق الحدود ووقف التجارة المباشرة مع أرمينيا أصاب بالكساد سكان هذه المحافظات ودعوا الى فتح الحدود التركية-الأرمنية وعدم تسييس هذه المسألة. وكانت تركيا تتخذ الخطوة ذاتها مع العراق بفرض الحصار الاقتصادي عليه من 1991-2003، بناء على ضغوط أميركية وضد مصالح تركيا نفسها، وهي بذلك كانت تضر مواطنيها من سكان الولايات الجنوبية المحاذية للحدود مع العراق.
كما أعلن اردوغان "احتجاجه على الحصار المفروض على جمهورية قبرص التركية"، التي لم تعترف بها سوى تركيا. ولا يحق لاردوغان وتركيا ابداء مثل هذا الاعتراض، لأن تركيا نفسها وحليفتها أذربيجان تفرضان الحصار ومنذ سنوات على أرمينيا وأقليم ارتساخ-غاراباغ الجبلي[10].


[1] http://www.turkishweekly.net/news.php?id=7896
http://www.ntv.com.tr/news/318450.asp

[2] Ibid.
لم يكن الكتاب الأزرق (البريطاني) الأساس الوحيد لاعتراف الدول بالإبادة الأرمنية. فهناك عدد كبير جداً من الوثائق والمصادر وشهادات العيان والكتب حول هذه المسألة. راجع مقالتي في هذا الموقع تحت عنوان: مؤرخ تركي: المهجر الأرمني اقنع العالم كله بموضوع الإبادة. وسأتطرق في مقالة مقبلة إلى الرد البريطاني على الطلب التركي لها بسحب اعترافها بالكتاب الأزرق، والذي انتقد من قبل عدد من المثقفين والكتاب الأتراك، باعتباره يضعف الموقف التركي في هذه المسألة إزاء الحليف البريطاني.
[3] لم يوجه ارينك رسائل مماثلة إلى دول كانت معترفة بالإبادة الأرمنية مثل أرمينيا (التي اعترفت بها تركيا ولم تقم معها علاقات دبلوماسية)، وجمهورية قبرص (الني سحبت تركيا اعترافها بها وتسميها "جمهورية قبرص اليونانية" للتمييز عما يسمى "جمهورية قيرص التركية" الني لم تعترف بها سوى تركيا، فضلاً عن الفاتيكان.
[4] http://www.turkishpress.com/news.asp?id=69283

[5] صحيفة مرمرة (باللغة الأرمنية)، اسطنبول، 9 تموز-يوليو 2005
http://www.normarmara.com/

[6] كما شكا اردوغان في زيارة أخرى للولايات المتحدة من هذه المسألة أيضا بقوله: "إنني لا أفهم الأساس في اتخاذ دول لا علاقة لها بالمسألة قرارات بشأن الإبادة الأرمنية المزعومة وجميعها قرارات سياسية لا تخدم السلم في العالم". راجع:
http://www.anatoliantimes.com/hbr2.asp?id=70756

[7] صحيفة مرمرة (باللغة الأرمنية)، اسطنبول، العدد السابق.
[8] كما تتطرق الأجهزة التركية الرسمية الى عمليات الجيش السري لتحرير أرمينيا (آسالا) ضد الدبلوماسيين الأتراك في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
[9] راجع أيضا مقالتي في هذا الموقع باللغة الإنكليزية تحت عنوان:
Khaleej Times Online on Artsakh (Nagorni-Karabakh)'s issue.

[10] لمعرفة موقف اردوغان من قرار البرلمان الألماني حول الإبادة الأرمنية راجع أيضا مقالتي في هذا الموقع تحت عنوان: البرلمان الألماني يدعو الحكومة التركية للتحقيق في الإبادة الأرمنية،.

0 comments:

Post a Comment

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...
p--cmYrAD_e345B