Friday, September 07, 2007

وداعاً ... حبيبتي بغداد

هذه مقالتي الأخيرة التي كتبتها وأنا في بغداد قبل أن أغادرها الى يريفان عاصمة جمهورية أرمينيا
بقلم آرا آشجيان

أكتب هذه الكلمات وأنا أودعك يا حبيبتي بغداد. أودعك والألم والحزن يمزقان قلبي ويملئان كياني ووجداني. فأنت المدينة التي احتضنت أبي وغيره من الأرمن الناجين من الإبادة الأرمنية لعام 1915، ووفّرت لهم المأوى وسبل العيش والراحة. وفيك وُلدت وترعرعت، وأكملت دراستي الابتدائية والثانوية في مدرسة الأرمن المتحدة الأهلية.

كما حلمت وعشت فيك حبي الطفولي الأول في المدرسة، وكنت متفوقاً فيها على الدوام، لأدخل كلية الهندسة بجامعتك وتخرجت مهندساً إنشائياً لأخدمك من خلال اختصاصي وأسهم في أعمارك. ثم التحقت بالخدمة العسكرية الإلزامية أثناء الحرب العراقية-الإيرانية، وواصلت دراستي العليا لأكملها في العام 1988، وخلالها أحببت فتاتي الأرمنية الطالبة في قسمي العلمي نفسه، بيد أنني افترقت عنها بعد سنوات لأنها هجرتك ورحلت إلى عالم المجهول. وبعد غزو الكويت عام 1990، أديت خدمة الاحتياط في الجيش وتسرحت منها بعد انتهاء حرب الخليج الثانية عام 1991.

وفيك يا حبيبتي مارست، بشكل فاعل، نشاطي في الجمعيات الثقافية الأرمنية ومطرانية الأرمن الأرثوذكس ومنتدياتك الثقافية بإلقاء المحاضرات عن تاريخ أرمينيا وتاريخ الكنيسة الأرمنية والقضية الأرمنية، فضلاً عن إعطاء الدروس في تفسير الكتاب المقدس. كما كنت أكتب المقالات وعملت صحفياً في بعض صحفك، وعملت في سفارة أرمينيا حتى مغادرة أعضاء البعثة لك قبل بدء حملة الغزو الأميركي-البريطاني في آذار-مارس 2003. وعملت تدريسياً في الجامعة، وكان هذا هو تاريخي الذي صنعته فيك بجهد وعرق وكنت فخوراً به، وأحلم أن أحدث أولادي عنه في المستقبل وأنا فيك.

ولكن كل شيء فيك تغير يا حبيبتي بعد أن أصابتك الجراحات وغدر الأخوة والأصدقاء والأعداء من كل جانب. وأصبحت تنزفين دماً والموت فيك في كل مكان لا يستثني أحداً، وأصبحت الحياة فيك لا تطاق، وهي ضرب من الجنون والانتحار.. كما افتقدت إلى سبل العيش الكريم وجميع أنواع الخدمات.

وبرغم الصعوبات الجمة التي واجهتها وأنا فيك، والتي استمرت أكثر من ربع قرن، بدءاً بالحرب العراقية-الإيرانية، ومروراً بالحصار الاقتصادي الدولي الظالم، ومن ثم الغزو، لم أغادرك للحظة وبقيت ملتصقاً بك كالتصاق الطفل الرضيع بأمه. بيد أنني الآن، ربما فقدت القدرة على الصبر والمطاولة، وقد غادرك جميع أهلي وأقربائي، وبقيت وحيداً مع أم وأخ مريضين، ولم أجد، في ظل هذه الظروف، من يعينني في رعايتهما، والجو من حولي كئيب وحزين، فاضطررت إلى التفكير في ما لم أفكر فيه من قبل .. فكرت في فراقك وترك كل تاريخي الذي صنعته فيك طوال سنين طويلة، والبدء بتاريخ جديد بعيداً عنك ..

بيد أن أمي العليلة لم تكن ترغب بمغادرتك وقالت لحولها مراراً: ليت ابني يدفنني في بغداد قبل أن يرحل عنها، لرغبتها في أن تدفن قريباً من أبي، رحمه الله، وفاءً منها له حتى في مماتها، إلى جانب إدراكها أن جسمها العليل لا يتحمل عناء الطريق الطويل لمغادرتك.. وقد تحققت "رغبتها" هذه، ووافتها المنية قبل مغادرتك بنحو خمسين يوماً. وقد واجهت أمي، رحمها الله، نهايتها بكل شجاعة، حتى أنها كانت قد أعدت الملابس الجديدة التي كانت ستكفن بها قبل سنوات!! آه، يا حبيبتي بغداد، قد أصبح ترابك الآن يضم رفات أمي العزيزة الغالية، التي واصلت رعايتها وسهرت إلى جانبها في مرضها ليلاً ونهاراً، هذا إلى جانب رفات أبي وشقيقتي وكنت قد قمت أيضاً برعايتهما في حياتهما وأثناء مرضهما، ورحلوا جميعاً راضين عني، مما سيزيد عليّ من ألم مغادرتك وفراقك.

ولكن الشيء الذي سيخفف عني ألم فراقك هو أنني سأغادرك إلى يريفان الحبيبة التي ظلت في أحلامي منذ طفولتي، ولكنك كنت الحبيبة التي أعيش فيها ومعها. وسينعكس الوضع بعد الآن، وستصبح يريفان هي الحبيبة التي سأعيش فيها وأنت الحبيبة الحلم. وستُضمد جراحك يا بغداد، وستنهضين من جديد بأبهى صورة، وستظلين في قلبي مهما حييت ..

وأخر مكان، يا حبيبتي بغداد، زرته فيك قبل مغادرتك كان موقع المنزل الذي ولدت فيه في شارع زعيمك الخالد عبد الكريم قاسم (1958-1963) الذي قاد فيك ثورة الرابع عشر من تموز-يوليو 1958 ضد الحكم الملكي وأقام الحكم الجمهوري. وقد أطلت النظر في موقع المنزل الذي أصبح مستشفى خاصاً، وجلست في المطعم المقابل له، لأطيل النظرات الأخيرة على الموقع، على الرغم من أن المطعم لم يكن يقدم الأصناف الغذائية المفضلة لدي!! وقد تذكرت ما كان أبي وأمي، رحمهما الله، قد قالاه لي عن الظروف التي أحاطت بمولدي في هذا المنزل. فقد تزامن يوم مولدي (8 تشرين الثاني-نوفمبر 1960) مع إعلان الأحكام العرفية فيك بسبب الظروف السياسية والأمنية غير المستقرة السائدة آنذاك. وكان أبي واقفاً في الشارع أمام منزلنا في ساعة متأخرة من الليل ينتظر مرور سيارة أجرة لينقل أمي إلى المستشفى لتلدني. وقد تصادف مرور الزعيم عبد الكريم قاسم، الذي كان معتاداً على الرجوع من اجتماعات مجلس الوزراء بعد منتصف الليل إلى المنزل الذي كان يقع أمام منزلنا في الشارع الذي يحمل أسمه حتى الآن. وسأل الزعيم أبي، الذي كان يعرفه وهو الجار له، عن سبب وقوفه في الشارع في هذه الساعة من الليل. وعندما أخبره أبي عن السبب، أمر الزعيم حرسه الخاص بإيصال أبي وأمي بسيارته الخاصة إلى المستشفى حيث ولدت في الساعة السادسة صباحاً!!

كما تذكرت، وأنا أرى موقع المنزل، سني طفولتي وشبابي التي قضيتها في هذا المنزل لأكثر من ربع قرن حتى باعته عائلتي لمجموعة من الأطباء البارزين الذين أنشأوا في موقعه مستشفى خاصاً يعد الآن من المستشفيات الخاصة البارزة في بغداد.

وداعاً حبيبتي بغداد .. فهذه أصعب لحظات حياة أبنك البار، لحظات فراقك. سأفتقدك وسأفتقد نهرك الخالد دجلة الخير، وبيتي وحياتي فيك وطيبة أهلك. وسأستمر بالصلاة لك لتستردي عافيتك ونضارتك. وقد برهنت دائماً في تاريخك أن المصائب والمصاعب لم تؤثر قط فيك، إذ سرعان ما كنت تنهضين لتتبوأي المكانة الجديرة بك ..

وداعاً حبيبتي، فأنت فيَّ دائماً مهما بعدت المسافات والزمن بيننا، والفراق عنك صعب ومر وليساعدني الرب على تحمله ..

وداعاً حبيبتي بغداد ..

2 comments:

  1. Anonymous8:59 PM

    Քեզ կը մաղթեմ յաջողութիւն, եւ յոյսով որ Իրաք կը վերադառնայ խաղաղ եւ ազատ:

    Յուսամ կը շարունակես գրել Երեւանէն:

    I wish you success, and hope that Iraq would have peace and freedom back.

    I hope that you'd continue to write from Yerevan.

    ReplyDelete
  2. Very well said. Your words brought tears to my eyes. When I left Baghdad in 2006, I left my heart there.

    Wish you all the best. Inshallah the day when we all go back home come sooner than later.

    BT

    ReplyDelete

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...
p--cmYrAD_e345B